«الصُّلحة» التركية الألمانية: ماذا وراءها؟
أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الأيام القليلة الماضية زيارة إلى ألمانيا، استمرت ثلاثة أيام، التقى خلالها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وذلك بعد الانتهاء من أعمال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
تعتبر الزيارة المذكورة هي الأولى من نوعها لأردوغان بعد فترة سادت فيها الخلافات بين البلدين، تخللها عدم حل مشكلة اللاجئين جذرياً، والمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، مع الرفض الألماني المتكرر للطلبات التركية ذات الصلة بمسألة انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وبعض التصريحات والانتقادات المتبادلة والمتعلقة بموضوع حرية الصحافة والديمقراطية في تركيا، وقضايا أخرى.
مجريات الزيارة
لقاءات مع ميركل والرئيس الألماني، وافتتاح أحد أكبر المساجد في مدينة كولن الألمانية، كانت أبرز أجندات الزيارة المذكور التي ركزت عليها مختلف وسائل الإعلام الأوروبية الناطقة بالعربية، بالإضافة إلى ما تم الإعلان عنه من عقد قمة بين فرنسا، وألمانيا، وتركيا، وروسيا، في تشرين الأول القادم، حول الوضع في محافظة إدلب.
ولكن ما يمكن التأكيد عليه يتجسد في أن المحرك الرئيس الذي يحكم العلاقات بين البلدين يتمثل في وجود كمٍ هائلٍ من المصالح الاقتصادية المتبادلة بين الجانبين لاعتبارات جغرافية وسياسية، ولتموضعهما ضمن المنظومة الدولية القائمة.
يصر الإعلام الأوروبي على تضمين مسألة الحرية السياسية والصحفية في تركيا على جدول أولويات المسائل التي تم طرحها في اجتماع أردوغان وميركل، واعتبارها مشكلة ألمانيا الأساسية التي تحجم من العلاقات بين البلدين، الأمر الذي قد يكون صحيحاً جزئياً، إلا أننا نعتقد أنه أصغر من أن يكون عاملاً أساسياً، لمجرد معرفتنا بأن العلاقات بين الجانبين كانت حميمية في العقد الأول من القرن الحالي، الذي كان يترأس فيه أردوغان الحكم في تركيا، مما يدفعنا للتأكيد على الفكرة القائلة بوجود حملة دعائية أوروبية منظمة ضد الدولة التركية عموماً، تتمظهر بالهجوم على شخص أردوغان، وذلك لتحقيق غايتين تصبّان في إخضاع الدولة التركية المفتاحية في المنطقة للاتحاد الأوروبي، وهما:
أولاً: استخلاص ما أمكن من التنازلات التركية، داخلياً وإقليمياً ودولياً، وذلك في إطار التنازلات التي تقدمها الدولة التركية للاتحاد في سبيل اعتبارها جزءاً منه، وما المسائل الإعلامية والحقوقية ذات الصلة بالحريات في تركيا إلا حجة غير مقنعة عفا عليها الزمن.
ثانياً: يتم تقديم الفكرة القائلة بأن تركيا هي التي تستميت – وهذا صحيح- في سبيل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي يأبى هذا الأمر إلا بعد تحسن مستوى الحريات فيها، ولكن هذا لا ينفي بأن الاتحاد الأوروبي أيضاً، ولا سيما ألمانيا، تستميت هي الأخرى في كسب تركيا سوقاً ودولةً ونقطةً للعبور نحو الشرق والشرق الأوسط.
حقائق سياسية
إن الأوروبيين ولا سيما ألمانيا، لم ولن يتعاملوا بجدية إطلاقاً مع الجانب التركي في مسألة انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وذلك لاعتبارات تتجسد في الكم الهائل من الطاقات الكامنة في تركيا، والذي يخولها لأن تكون منافساً جدياً لتلك القوى الأوروبية المركزية، والتي تعتبر أوروبا بعمومها سوقاً خاصة بها فقط. بالإضافة إلى محاولة الحفاظ على الموقع التركي ضمن المنظومة الرأسمالية باعتبارها دولة طرفية.
إن قضية تحول الغرب عن التعامل مع تركيا كحليفة جدية، بعد فترة من العلاقات الإيجابية بين الطرفين امتدت لعشرِ سنوات، نحو المزيد من النفور والهجوم في بعض الأحيان، انتهاءً بمحاولة الانقلاب الأخيرة الفاشلة، إنما يعود إلى عدم قدرة القوى الغربية على ضبط أولئك الحلفاء الإقليميين ذوي الوزن العالي نسبياً ضمن التغيرات الجارية في الأوزان الدولية، مما يدفع تلك الدول والتي تتمتع بدرجة معينة من الاستقلالية إلى البحث عن خيارات أخرى، ممتثلة في الحالة التركية وروسيا، والتي هي على ما يبدو قادرة على تعويض تركيا عن الفراغ الذي سيخلفه خفض علاقاتها مع القوى الغربية.
يشكل ضغط الولايات المتحدة على أعدائها وحلفائها اليوم، محركاً لبناء نوع جديد من التحالفات، ودافعاً لحل الكثير من الخلافات بين دول تجمعها مصلحة مواجهة تلك الضغوط، وخاصة أنه في الوقت الذي تعمل فيه واشنطن على الاستمرار في الابتزاز وفرض العقوبات، ثمة محور يتشكل في الشرق يضمن روسيا والصين وإيران وغيرها، محور يسعى إلى تكوين قوة سياسية واقتصادية وعسكرية في آن واحد، ويفتح الباب لجميع الدول المتضررة من السياسات الأمريكية للانضمام كتركيا وألمانيا.