العقوبات الأمريكية: كلبٌ يعضّ ذيله
مع كل حزمة عقوبات جديدة تطلقها واشنطن يتزايد الاستياء الأوروبي منها، ليكبر في الآونة الأخيرة حجم الهجوم على واشنطن من الأوروبيون أنفسهم قبل المعنيون على الورق من هذه العقوبات.
يزن بوظو
كُل ما دقّ كوزٌ بجرةٍ تخرج واشنطن بحزمة عقوبات اقتصادية ترمي بها على هذه الدولة أو تلك، لما لديها من مركزية وتحكّم في النظام المالي العالمي، الذي وإلى أجلٍ ليس ببعيد سوف يُخرج الدولار منه بكونه قمة الهرم والمعادل لبقية العملات، وسيرده إلى قيمته الحقيقية، التي تساوي حجم الإنتاج الأمريكي الحقيقي وسلّته.
ربّ ضارةٍ نافعة
لكن هذه العقوبات ووفقاً لنتائجها لا تؤثر سلباً على الدولة المعنية فيها، كروسيا والصين وإيران وتركيا، بالقدر والشكل المطلوب منها، ولا تحقق أيّ تقدم للجانب الأمريكي لا اقتصادياً ولا سياسياً، بل ووفقاً لنتائجها أيضا فهي تساعد على تقارب وتحالف اقتصاد دول الشرق فيما بينها وبعملاتها المحلية وبإنتاجها ومستثمريها أكثر عوضاً عن الدولار وريعه، أي بعكس مصلحة الغرب عموماً، والمتضرر الأكبر يكون تلك الدول التي هي مرتبطة عضوياً بالنظام المالي القديم، بتداولاتها التجارية الإقليمية والدولية كالاتحاد الأوروبي، فتقوّض حركة رساميلها عن استثماراتهم في الدول السابقة وتبعدهم عنها فرضاً وإكراهاً، والذي هو في المحصلة من مصلحة دول الشرق وشعوبها، إما لتعزيز صناعاتها الداخلية تعويضاً، أو فتح الطريق أمام مستثمرين أجانب لهم منطق مُختلف عن أشباح الدولار.
فالعقوبات على روسيا دفعت إلى تعميق العلاقات الاقتصادية الروسية والصينية، فأصبحت روسيا المصدر الأول للنفط إلى الصين، وتوسع التبادل التجاري بين الدولتين بنسبة كبيرة، لتصبح الصين الشريك التجاري الأول لروسيا، وكذلك توسع التبادل التجاري بين البلدين بالعملات المحلية، بالإضافة إلى الحديث عن تجارة النفط بين روسيا وتركيا وإيران بالعملات المحلية.
العقوبات نقدٌ يشتري الوقت
تختلف التحليلات حول غايات واشنطن منها، إلا أنها تُصبح خطأً فادحاً عند عدم الانطلاق من نقطة معرفية تفرّق دول المركز الرأسمالي، ومركز المركز الرأسمالي، عن بقية الدول الطرفية، ويصبح الخطأ مضاعفاً عند نكران أن هذه المراكز في حالة تراجع وهزيمة، وأن منافسيها القوى الصاعدة كروسيا والصين بشكل أساس وبوصفها دولاً طرفية تكسر هيمنة أمريكا والغرب عموماً عليها وعلى الساحة الدولية، وتنشئ تدريجياً نظاماً اقتصادياً مختلفاً عن سابقه ومستقل عنه.
وفي حالة عجز المركز عن الخروج من أزمته، لما تحتويه من تناقضات داخلية موضوعية ومترابطة ولا رجعة عنها، يصبح الخيار الوحيد المتاح هو شراء الوقت وتلقي الهزيمة بأقل الخسائر، بالإضافة إلى مشكلة الدولار وقيمته الوهمية، ليكون في هذا السياق محاولة واشنطن عبر واحدة من أدواتها كالعقوبات الاقتصادية أن تعرقل وتبطئ حركة الاقتصاد دولياً بما فيه من مستثمرين عابرين للقارات «بدولاراتهم» التي هي من صلب المشكلة، لتُعيد تدريجياً مركزية القرار والتحكم إلى الداخل الأمريكي وضمن حدوده لتعزيز إنتاجه الداخلي والحقيقي منه.
العودة إلى النسخة 1.0
أنتجت المنظومة الرأسمالية وتحديداً بعد أزمة الكساد عام 1929 نموذجاً سياسياً جديداً في حينه وصف على أنه الحلّ، سُمّي بالليبرالية الجديدة أو «نيوليبرالية»، وعملوا على عولمتها بعد تقاسم العالم الثاني، وتحرير الرساميل من حدودهم الجغرافية ليصبحوا عابري قارات، استمراراً لمزيد من التوسع والاحتكار والتمركز، وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية عام 2008، والتي أيضاً تلاها وحتى اليوم تغيّرات في موازين القوى الدولية، لتعود أمريكا اليوم عبر سياسات حمائيتها الاقتصادية وقراراتها أحادية الجانب إلى جزء من آلية عمل الليبرالية الكلاسيكية القديمة وضمن حدود أمريكا الجغرافية، أي عكس سياسة العولمة خاصتهم، لتترك تدريجياً حلفائها التاريخيون «يقلعون شوكهم بأيديهم»، إلا أن ذلك لا يعني بأن واشنطن باتت تكفّ يدها عن آليات النهب والاستغلال الدولية، بل قُصّت.
الأوروبيون أكبر المتضررين
كُل عقوبة اقتصادية تجري هنا أو هناك تكون ضحيتها حكومة أو شركة أوروبية ما في هذا البلد أو ذاك، فلنأخذ مثالا شركة «توتال» الفرنسية التي خرجت رسمياً من أكبر مشاريعها الاستثمارية في إيران مؤخراً تحت ضغط العقوبات الاقتصادية، لينتهي مشروعها المقدر بنحو 4.8 مليار دولار، تاركة إمكانية العودة بناءً على ما يجري مستقبلاً من اتصالات بين الحكومة الفرنسية والأمريكية للحصول على استثناء من هذه العقوبات.
المتضرر هنا ليس إيران، ففي مقابل خروج «توتال» يصبح هنالك شاغراً لغيرها ومن غير اجتهادات كثيرة بالإمكان توقّع البدائل الآتية من الشرق، فيرجح أن تستفيد شركة «البترول الوطنية الصينية «CNPC الشريكة لـ«توتال» في الاستثمار، وحدها.
وفي روسيا على سبيل المثال، أدت سلسلة العقوبات منذ عام 2014 إلى تحويل إلى تحويل جزءٍ هامٍ من الاستثمارات الروسية الحكومية إلى قطاعات الإنتاج الحقيقي، وتحديداً في الزراعة والصناعة، وحولت روسيا إلى المصدر العالمي الأكبر للمنتجات الزراعية، وتحديداً القمح، وزادت من الناتج الصناعي الروسي. كما أنها قيدت تلقائياً منافسة البضائع الأوروبية للبضائع الروسية في الداخل الروسي.
ومن هذه الحوادث الكثير، إضافة لواقع تأثيرات أزمة واشنطن على حلفائها، لتتعالى أصوات اليمينيون في أوروبا تنديداً بهذه العقوبات وتقارباً مع روسيا والصين.
العولمة على نموذج دول البريكس
على النقيض من منطق العولمة الغربية القائم بطبيعته على الاحتكار والابتزاز والمنافسة وما أوصل منه إلى حروب وأزمات داخلية ضمن مراكزه أو خارجها، يبدأ مع القوى الجديدة الصاعدة منطق مختلف مبني على طوعية المشاركة والتكامل الاقتصادي وفقاً لمصالح هذه الدول نفسها في تحرير نفسها أولاً من نهب الغرب، وبمشاريع جديدة كطريق الحرير الاقتصادي وطريق الحرير البحري، ولإنجاز هذه التغيرات يتطلب وجود نظام عالمي وعلاقات دولية مستقرة.