قمّة كوريّة وطاعة أمريكيّة
يزن بوظو يزن بوظو

قمّة كوريّة وطاعة أمريكيّة

بعد صدّ وردّ، وبعد تجاذب وتنافر، وبعد تهديدات متبادلة، والأهم بعد كُل التطبيل الأمريكي بالحرب على كوريا الديمقراطية، عُقد اجتماع القمّة التاريخيّ الذي جمع كيم وترامب في سنغافورة بتاريخ 12 حزيران، نتاجاً واستكمالاً لسير عمليات السّلام في شبه الجزيرة الكورية، رغماً عن قوى الحرب الغربية.

نتج عن الاجتماع وثيقة وافق ووقع عليها كلا الرئيسين، تعهدت فيها بيونغ يانغ بنزع سلاحها النووي مقابل ضمانات أمنية من الولايات المتحدة، وكانت أولى النتائج الملموسة بعد الاجتماع، وبعيداً عن الحبر والورق، وقف الأعمال والمناورات العسكرية بين واشنطن وسيئول، الأمر الذي كانت قد هددت بسببه بيونغ يانغ إلغاء اجتماعها مع واشنطن، إضافة إلى الشروط المسبقة التي حاول الأمريكيون فرضها من جانب أحادي، والتي تراجعت عنها بعد ذلك، ليجري الاجتماع مع مخرجاته على التوافق دون فرض شيء من الأمريكي أو غيره.
من دعوات الحرب إلى السلم
إن واشنطن اليوم ليست بموقع قوّة، وإنما العكس، فمع مجريات التغيّر في موازين القوى الدولية ومعادلاتها، إضافة إلى أزمة الولايات المتحدة نفسها، تصبح يوماً بعد يوم أضعف وأكثر هشاشة من اليوم السابق، فإذا كان الأمريكيون قبل سنتين على الأقل يصعّدون اتجاه حرب مع كوريا الديمقراطية، فإنهم اليوم يسعون للسلام معها وبشكل متسارع فرضاً وطاعةً، وما الأمور الشكلية من مناورات وتصريحات و«تغريدات» سوى غطاء يسترون ضعفهم وتراجعهم فيه، وفيما يخصّ قضية كوريا فإن مواقف بيونغ يانغ بالتعاون مع الصين وروسيا قد قوّضت عجرفة واشنطن وألزمتها بالتراجع والسير بخطّ السلام في شبه الجزيرة الكورية، ما يعني انتصاراً للكوريين وجيرانهم الصينيين بالدرجة الأولى.
الفاشي يعبّر عن سخطه
كالعادة، عَمل إعلام التيار الفاشي، الرسمي منه، وأبواقه التابعة أمريكياً ودولياً، على التعبير عن موقفه، سواء بتشويه القمّة ومجرياتها أو بمحاولات الانتقاص من أهميتها، وتقليل وزنها، وهجوماً على ترامب، بشتى الأساليب والوسائل، من تحليلات بعيدة عن أيّ واقع وموضوعية وصولاً للسخرية بأكثر أشكالها فظاظة، تعبيراً عن استيائهم وهزيمتهم، ولدرجة حدة الهجوم على ترامب، ردّ الأخير عبر «تغريداته» بتسميه هذا الإعلام مجدداً بـ«الإعلام الكاذب» أو «المضلل»، لكن ما يهمّنا رؤيته من هذه «المعمعة» الأمريكية- الأمريكية هي حدّة الانقسام الذي يتعمّق أكثر فأكثر بالتوازي مع خطوات التراجع والعزلة وما يحمله من تأثيرات على حجم ودور واشنطن دولياً وعلى مختلف الملفات.
الجنوبية تعدّل بوصلتها شرقاً
على الجانب الآخر، تزداد إشارات كوريا الجنوبية بالانفتاح في علاقاتها الاقتصادية والسياسية شرقاً بعدما بات الأمريكي يفك ارتباطاته معها تباعاً بتراجعه وتخليه عن مشاريعه هناك، ما يدفع كوريا بشكل طبيعي للبحث عن مصالحها بأماكن أخرى، فها هو مو جيه إن، رئيس كوريا الجنوبية، يقوم بزيارة إلى روسيا بعد تعبير منه عن اعتقاده بوجود هدف مشترك له يجمعه مع بوتين، وهو تحقيق السلام، إضافة إلى حديثه عن آفاق التعاون الاقتصادي بين بلاده وروسيا، لتكون هذه أول زيارة يقوم بها رئيس كوري جنوبي إلى روسيا خلال 19 سنة خلت.
الشعوب أولاً وآخراً
نؤكد من جديد أن في نهاية الأمر بوصلة مصلحة الكوريتين وما يحددها هي شعوبهم التي غيّبت وقُسّمت منذ خمسينيات القرن الماضي، وما أعلن مؤخراً من التوصل إلى اتفاق على عقد جولة جديدة من برنامج لمّ شمل الأسر المشتتة بين شطري شبه الجزيرة الكورية هو بالبادرة الجيدة نسبياً، ولكنها بالتأكيد ليست بالكافية إطلاقاً لهم، فمشروع استعادة الوحدة بين البلدين هو المصلحة الأولى المشتركة لدى بلدٍ وشعبٍ واحدٍ قُسّم عمداً، وهو التطور الطبيعي الذي سوف يأخذ مجراه في السنين القادمة.
ما حدث في كوريا له دلالات عميقة وواضحة على أن المنطق الذي ساد عقوداً في العلاقات الدولية قد تغير، وهو تمظهر حقيقي لميزان القوى الدولي المتغير، وانعكاساً لاتجاه عام يسود في حل النزاعات الدولية قائم على الحلول السلمية وانحسار الحروب، وهو ما سينسحب حكماً على جميع الملفات التي لاتزال عالقة، بما فيها الملف السوري والأوكراني واليمني والليبي... رغم جميع محاولات العرقلة والتعنت، والتي لن تدوم طويلاً كما حدث في كوريا، التي وصل فيها الأمر حد التهديد بحرب نووية، انقلب رضوخاً لقوى الحرب للمنطق السليم الصاعد، منطق الحلول والمفاوضات والسلم.