«مين قال الشعب مات... هيّو بيسقط حكومات»
جواد محمد جواد محمد

«مين قال الشعب مات... هيّو بيسقط حكومات»

هو أحد الشعارات التي رُفعت في الحركات الاحتجاجية التي بدأت في الأردن منذ أواخر أيار الفائت، وعمّت مدن عدة، رداً على قانون الضرائب الجديد، المفصل على مقاس توصيات صندوق النقد الدولي لتحقيق ما يسميه الصندوق «إصلاحات»، والذي بضغط الحركة الشعبية ولد ميتاً.

نظن أنه من حق أي سائل عاقل أن يسأل عن التزامن الغريب والعجيب بين الضغط نحو تخفيض المساعدات والمنح الدولية للأردن، مع ضغط الصندوق الدولي عليه للتسريع في «إصلاحاته»، والتي لا يمكن إلّا أن تدفع الأردن نحو مزيدٍ من التقشف ورفع الأسعار وخفض الدعم، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى نزول الناس إلى الشارع لحماية ما تبقى من فتاتها من الوحوش الدولية.
والنتيجة، خلق حالة من التأزم والاضطراب في الداخل الأردني، لدفعه نحو تقديم تنازلات هنا وهناك، كحل لعودة المساعدات والوفاء بالالتزامات المالية ...سيقول عنا البعض أننا مؤامراتيون لكنه حصان طروادة في القرن الحادي والعشرين.
ما الذي جرى؟
في الواقع لم يكن قانون الضرائب الجديد إلا تلك الذريعة المباشرة التي أدت بالشارع الأردني للنزول إلى الشارع دفاعاً عن حقوقه، إذ أن التردي المستمر والمتواصل والمدروس للواقع المعيشي الأردني هو السبب العميق والجوهري الذي يدفع الناس للحركة، حيث يمكن اعتبار خفض دعم المحروقات في 2011 البداية المباشرة، من ثم خفض دعم الخبز وبعض المنتوجات الزراعية والسجائر والمشروبات الغازية، وصولاً إلى رفع الدعم كلياً عن الخبز والمحروقات مؤخراً، وانتهاءً بإعلان قانون الضرائب الجديد تلاه حركة احتجاجية عارمة أدت بالحكومة إلى الاستقالة، وإعلان الحكومة الجديدة سحب القانون، الأمر الذي يعد انتصاراً شعبياً أردنياً بامتياز.
إن قانون الضريبة الأردني الجديد يرفع قيمة الضرائب عموماً على مختلف شرائح الشعب الأردني، وحتى الموسسات الاقتصادية الخاصة، إلّا أن وقعها على الأُسَر الميسورة والمتوسطة أكبر نسبياً، إذ تم خفض سقف الدخل المعفى من الضرائب، مع تصغيرٍ في حجم الشريحة الضريبية من الراتب، وزيادة عدد هذه الشرائح من ثلاث شرائح إلى خمس، لتتراوح النسب بين 5% إلى 25%، بينما كانت بين 7% إلى 21%.
بعبارة أخرى، وبعد قراءة متأنية لنص القانون، وبعمليات حسابية بسيطة، إذا كان دخل الفرد السنوي يبلغ 14000 دولار فيتوجب عليه دفع 1260 دولاراً كضرائب، بينما وفق القانون الجديد فعليه دفع 1350 دولاراً، وإذا كان الدخل السنوي 18000 دولار فيتوجب دفع 1720 كضرائب، بينما وفق الجديد فيتوجب دفع 2100 دولار، دون أن ننسى أن العاصمة عمان من أكثر العواصم العربية المكلفة معيشياً.
الحركة الشعبية
إن بعض الحركات الشعبية العربية عموماً منذ بداية ما يعرف بـ«الربيع العربي» كانت تعاني من الفوضى بعض الشيء، وعدم وجود شعارات دقيقة وملموسة تجعل منها أهدافاً واضحة قابلة للتطبيق، بالإضافة إلى سهولة التحكم بها نظراً لانعدام تجربتها السياسية، وكل ذلك نتيجة حالة الجفاف السياسي الذي عانته المنطقة عموماً، إلّا أن الموجة الحالية في الأردن كانت أكثر واقعية ونضجاً وانتظاماً حيث أنها تميزت بـالتالي:
أولاً: شعارات واضحة وملموسة ودقيقة، حيث رفعت الموجة الحالية في الأردن بغالبيتها شعاراً واحداً، ألا وهو سحب قانون الضرائب الجديد، ولم تطالب بشعار إسقاط النظام مثلاً، غير الواضح والقابل للتأويل والمرفوض كلياً من قبل القوى الحاكمة، بعبارة أخرى إن الموجة الحالية تميزت بوعي شعبي جمعي عامّ أعلى من سابقتها.
ثانياً: عدم الارتهان إلى قوى من الفضاء السياسي القديم، وظهور قوى مجتمعية جديّة بخلاف الموجة السابقة، التي كانت رهينة القوى الدينية في الكثير من الأحيان، والتي كانت تدفع الأمور باتجاه التصعيد السياسي وحتى العسكري، دون الاكتراث إلى قدرة الحركة ونضجها.
ثالثاً: إن عودة الجماهير الشعبية في الأردن تجعل من الرأي القائل بأن الحركة الشعبية الحالية هي حركة عابرة في طي النسيان، وتؤكد على الرأي القائل بالاستمرارية والاضطراد.
إن ما جرى في الأردن لن يكون أردنياً فحسب، فالمنطقة بعمومها، ونتيجة لترابطها الاقتصادي والثقافي عموماً، فاعلة ومنفعلة مع نفسها، فلا نستبعد تكرار هكذا تحركات في مصر أو العراق وحتى سورية...حركات شعبية جديدة، ولكن بدرجة أعلى من الوعي السياسي والنضج والاتزان، مع شعارات أكثر واقعية وعملية.
ثنائية المساعدات- التنازلات
إن القوى الدولية والعالمية، وفي سياق صراعها مع بعضها البعض، تمر بحالات من الصعود والهبوط تدفع بحلفائها، استناداً لحالتها، إما إلى التأزم أو الانفراج، وعليه وإسقاطاً على الولايات المتحدة المأزومة أصلاً، فإنها تنفيسٌ لأزمتها، ومضطرة إلى دفع حلفائها نحو مزيد من التنازلات، وذلك في إطار عملية نقل هذه الأزمة جزئياً إليهم، والذين يمانعون بدورهم في مشاركة الولايات المتحدة أزمتها.
هذا الأمر يدفع الولايات المتحدة حتمياً إلى الضغط على حلفائها، ومنهم الأردن، حيث إنها مضطرة إلى انتزاع الأكثر أردنياً على صعيد القضية الفلسطينية والأزمة السورية، لتحقيق شيء من التوازن الإقليمي، وهنا ربما يكمن السبب العميق وراء خفض المساعدات المالية للأردن، أي: مزيد من التنازلات مقابل مزيد من المساعدات.
إن الأردن دولة شديد التأثر بالبنى الإقليمية من جهة المساعدات والمنح المالية، بالتالي هي مضطرة للخوض في الصراعات الإقليمية هنا وهناك، وإن بشكل غير مباشر، لا وبل مفروض عليها في كثير من الأحيان المشاركة كنتيجة لشدة ارتباط وانخفاض الوزن السياسي والاقتصادي والعسكري الأردني نسبياً على الصعيد الإقليمي، ولابد من حل هذه المشكلة المزمنة، إذ لن يستطيع الأردن الاستمرار إلا بالتخلص من الارتباط المزمن بالقوى الإقليمية مالياً.
إن الحركة الشعبية هي الفيصل في حل جميع المشاكل العالقة، وينبغي الركون إليها في ذلك، إلّا أن درجة الارتباط والتبعية الشديدة تكبل الحكومة الأردنية، مما سيدفع بالناس من جديد نحو النزول إلى الشارع، إمّا لدفع البنية السياسية الحاكمة الحالية لحل مشكلة الارتباط المزمن هذه، أو لإنتاج بنية جديدة تقوم بحل المشكلة، ولكن الأكيد أن الواقع الحالي لم يعد مقبولاً وأصبح من الممكن تغييره.