إيران ... قشة البعير الأمريكي
في الثامن من أيار الجاري أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الإيراني، الذي كانت الإدارة الأمريكية السابقة جزءاً منه في عام 2015، مما دفع بحلفائه الأوروبيين إلى ما يمكن اعتباره غير مفهومٍ بالنسبة لدعاة الحلف الأوروأمريكي المقدس، و«نهاية» فوكوياما العرجاء... فما مدى عمق الخلاف؟ وما هي دوافع الأوربيين والأمريكيين في النحو بهذا المنحى؟
إن ما ينبغي الانطلاق منه في سياق تقييم هذا الموقف يتمثل بأن القضايا الدولية الحالية قد بلغت حداً من الترابط يجعل من الموقف الواحد فاعلاً ومنفعلاً لعدة ملفات في آن واحد، بكلمة أخرى يمكن القول: إن إحدى غايات الولايات المتحدة الأمريكية بالانسحاب من الاتفاق النووي هي الدفع إلى مواقف متشددة ومتشنجة من الطرف الإيراني، تدفع بالمقابل الأوروبيين إلى الانسحاب من الاتفاق تباعاً، بالتالي العودة إلى نقطة الصفر في أحد الملفات التي تعتبر انتصاراً صينياً روسياً بامتياز، ومن ثم بعثرة الأوراق في الملفات الأخرى كأوكرانيا وكوريا وسورية، أي: استهداف روسيا والصين، وإن كان بشكل غير مباشر.
غايات وصالح أمريكية
كان الرد الأوروبي الأولي على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، هو: تفعيل قانون التعطيل الأوروبي الذي يسمح للمحاكم والكيانات الأوروبية بعدم الامتثال للقوانين حول العقوبات التي يتخذها بلد ثالث. ويبدو واضحاً من مضمون القانون، أن وزن العامل الاقتصادي في تحديد منحى الموقف الأوروبي فيما يخص الاتفاق النووي عالٍ نسبياً، حيث إن أوروبا تخشى على استثماراتها داخل إيران، والتي ستتضرر بفعل العقوبات الأمريكية.
لكن بشكل أوسع يمكن القول: إن جذر الخلافات الأوروبية الأمريكية عموماً، والتي بدأت تتمظهر بشكلٍ واضحٍ في الكثير من المواقف والتصريحات والتوجهات السياسية، هي متعلقة بالتراجع الغربي العام، والتموضع الوظيفي لكل من الأمريكان والأوروبيين في المنظومة الرأسمالية، والعلاقات مع دول الأطراف.
بناءً على ماسبق، وعكساً على السلوك الأمريكي بخصوص الاتفاق الإيراني، فإن الأمر متعلق بمنطق التبادل اللامتكافئ الذي تسعى واشنطن إلى استعادته مع إيران، وبوجود قوى صاعدة ومنافسة بمشاريع بديلة.
إن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني يعكس مصالح فئات محددة أمريكية بطبيعة الحال، وهو محصلة لسلوك تيار محدد داخل الإدارة الأمريكية، وهنا يمكن ذِكرْ ما يلي:
أولاً: إن درجة مساهمة الشركات الصغيرة والمتوسطة في اقتصاد البلدان الأوروبية كبير نسبياً بخلاف الولايات المتحدة، التي ترتفع فيها مساهمة التكتلات الاقتصادية العابرة للقارات «الكارتلات»، بالإضافة إلى كونها مركزاً لهذه التكتلات التي تضم بعضها كيانات اقتصادية أوروبية. وهذه الكيانات العابرة للقارات لديها مشكلة كبيرة في حال ظهور دول يمكن أن تنتج كيانات اقتصادية صناعية تجارية كبرى منافسة، وإيران وبمقومات برنامجها النووي واعدة جداً في هذا المجال.
ثانياً: ربطاً بما سبق، فإن هذه التكتلات الاقتصادية العابرة للقارات، والتي تتخذ الولايات المتحدة مركزاً لها، بحاجة إلى خلق بؤر توتر في تخومٍ، وإن أمكن في قلب، تلك الدول التي تمتلك الإمكانات لإنتاج كيانات منافسة على الساحة الدولية، مما يدفعنا للافتراض، بأن الولايات المتحدة الأمريكية محكومة بالتوجه نحو تأزيم الملفات نظراً لدرجة ارتباطها بهذه التكتلات.
ثالثاً: إن الاعتبارات الجغرافية حاضرة في الموقف الأمريكي من إيران حيث يتمظهر في كون إيران إحدى نقاط العبور إلى شرق آسيا برياً إلى جانب روسيا، خصوصاً بعد طرح الصين مشروعها المسمى «حزام واحد طريق واحد» والذي يعد باستثمارات كبيرة في البلدان التي سيمر منها هذا الطريق. ومن الجدير بالذكر، أن وزن العوامل الجغرافية ينخفض نسبياً بمرور الوقت، وذلك نظراً لدرجة التطور العلمية التي أصبحت قادرة على إيجاد الكثير من الحلول المجدية فيما يخص القضايا اللوجستية، لكن يبقى الأهم: الإرادة والرغبة الإيرانية للانخراط في مثل تلك المشاريع بنسب متفاوتة.
التراجع الأمريكي النوعي
ينبغي وضع هذه المواقف السريعة والنوعية لمختلف الأطراف الدولية في سياقها العام العالمي، وربطها مع نظيراتها في الملفات الأخرى، لأنه في حال لم يتم ذلك فإن فهمنا للأمور سيكون آنياً، بالتالي معرضٌ للانحراف والمغالطة بتأثير التصريحات الترامبية والنشرات اليومية.
لدنيا الكثير من الوقائع التي تدفعنا للاعتقاد، بأن الخلاف الأوروأمريكي فيما يخص إيران هو خلاف نوعي وجدي، بل والتجرؤ على القول: أن ما قبل الانسحاب الأمريكي ليس كما بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني على الصعيد الدولي، وأهم هذه الوقائع، هو: الإجماع الأوروبي النادر في الحفاظ على الاتفاق النووي، وتفعيل قانون أوروبي للمرة الأولى منذ عشرين عاماً في سبيل ردع العقوبات الأمريكية عن إيران ألا، وهو: قانون التعطيل.
إن هذا الخلاف هو في العمق يعكس درجة عالية من فقدان الولايات المتحدة القدرة على ضبط علاقتها مع حلفائها الأوروبيين بما يخدم مصالحها، بالإضافة إلى التراجعات الكبرى في كل من كوريا التي سيضطر ترامب إلى لقاء زعيمها بعد اللقاء الكوري الكوري، الذي على ما يبدو كان خارج الإرادة الأمريكية، والهدوء النسبي في أوكرانيا التي توقفت فيها الأعمال العسكرية الكبرى، وسورية التي بدأت ملامح الحل فيها بالتبلور بعد خسارة الولايات المتحدة للكثير من أوراقها.. من كل ما سبق، يمكننا التأكيد على أن التراجع الأمريكي قد بلغ درجة غير مسبوقة.
على ما يبدو أن لإيران من الوزن والتجربة السياسيين يدفعانا للقول: أنها قد تكون القشة التي حطّمت ودكت البعير الأمريكي، وذلك استكمالاً لمناحي تراجع الهيمنة الأمريكية، التي تتراكم وتتوسع على أصعدة عدة، والتي تعززها مشاريع القوى الصاعدة...