أرمينيا: نسخة أخرى للثورة المضادة؟
تجري منذ الثالث عشر من شهر نيسان الماضي مجموعة من الاحتجاجات في العاصمة الأرمينية يريفان ضد ما يسميه المتظاهرون الفساد والإدارة الفاشلة لقيادة البلاد، نتج عنها تقديم رئيس الوزراء، سيرج سركسيان، استقالته، وذلك بعد أحد عشر يوماً من التظاهرات.
وإذا افترضنا أن هذه الاحتجاجات تحمل الكثير من المطالب المحقة، فإنه كما العادة، وكمثل الكثير من الاحتجاجات في مختلف أنحاء العالم، ستتعرض تلك المطالب المحقة للمحتجين إلى محاولات التحريف، وإعادة التوجيه بما يخدم تلك الجهات التي تقوم بهذه العملية. فما الذي جرى هناك؟ وما هي سمات أرمينيا الخاصة التي يمكن أن تدفع الأمور نحو منحى خاص بها؟ إن هذه الأسئلة المطروحة لا بد أنها تحتاج إلى إجراء بحوث للإجابة عنها وتدقيقها، لكننا سنقوم هنا بمحاولة تغطية الإجابات من مختلف جوانب الموضوع قد الإمكان.
في وقائع الأحداث
يوجد في أرمينيا أحزاب رئيسة عدة تم تأسيسها منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، أبرزها، هو: الحزب «الجمهوري» الحاكم، أي: حزب رئيس الوزراء سركيسيان المستقيل في الرابع والعشرين من شهر نيسان الجاري، والذي حصل على نسبة 49% في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في عام 2017، يليه حزب «أرمينيا المزدهرة»، الذي يقوده رجل أعمال، والحاصل على نسبة تقارب 27،5% من الأصوات، بالإضافة إلى حزب «الطاشناق» الحليف للحزب الحاكم، والعضو في الاشتراكية الدولية بنسبة 6% في البرلمان، وأخيراً حزب «ييلك» الذي حصل على نسبة 7% ويقوده من يدعي أنه «قائد» الاحتجاجات «الشعبية» الأخيرة وهو نيكول باشنيان.
منذ بداية الحركة الاحتجاجية كانت هنالك محاولات أمنية لقمعها، وهي: العقلية والأسلوب الذي عادةً ما يدفع مثل تلك الأمور إلى مزيدٍ من التأزم، ولكن يبدو أن الأجهزة الأمنية الأرمينية كان لها من التعقّل ما يكفي، بحيث لم تكن هنالك الكثير من حالات الإصابة أو الوفاة نتيجة الاشتباكات التي كانت تحدث.
وفي الرابع والعشرين من نيسان قدم رئيس الوزراء سركيسيان استقالته، والتي يمكن اعتبارها حركة حكيمة، وكلف نائبه كارين كارابيتيان بتسيير الأعمال، محاولاً الركون إلى طاولة الحوار مع المعارضة، ولكن اللقاءات لم تحدث لأسباب لم يتم ذكرها حتى في الإعلام.
ورغم الاستقالة انطلقت يوم الأحد 29 نيسان جولة جديدة من الاحتجاجات، حيث أغلق المتظاهرون الطرق المؤدية إلى ساحة الجمهورية، معتزمين السير اتجاه عدة جامعات وإنهاء المظاهرة في ساحة «فرنسا»، ليلقي زعيم المعارضة خطاباً هناك.
الخصوصية الأرمينية
إن جميع الحركات الاحتجاجية التي تجري هنا وهناك، لها من القواسم المشتركة ما يكفي للاعتقاد بأنها محقة وشرعية، وهذه القواسم المشتركة تدفعنا للاعتقاد بأن المصدر الأساس هو واحد، يتمثل بتردي أحوال الشعوب إلى تلك الدرجة التي تدفعها إلى القيام بما حدث، دون أن ننسى محاولات الركوب والتحوير التي تتعرض لها هذه الحركات.
كما أن لكل دولة بعض الخصوصية التي تدفع بالأمور اتجاه منحى خاص بها ووحيد لا يتكرر، إلّا في ذلك البلد بناءً على مجموعة من الخصائص وجملة من الظروف المحيطة به، وهذا المنطق ينطبق على أرمينيا أيضاً حيث يمكن إيجاز الخصوصية الأرمينية بما يلي:
أولاً: موقعها القائم على تخوم روسيا، العدو الأول حسب العقيدة العسكرية الأمريكية.
ثانياً: كانت دولة في الاتحاد السوفييتي، بالتالي كانت تملك إرثاً سوفييتياً غنياً، ولا سيما من ناحية التعامل مع الثورات الملونة.
ثالثاً: خصوصية الأرمنيين وتجاربهم المريرة في التعامل مع الأزمات ودول الجوار.
في تقييم الحالة
بناءً على ما جرى مؤخراً، واستناداً إلى التوازن الدولي الجديد، الذي تتراجع فيه الولايات المتحدة، وسمات أرمينيا الخاصة يمكن التأكيد على ما يلي:
أولاً: إن أي شخص مطلع، ولو بشكل بسيط، على برنامج زعيم المعارضة المدعو، نيكول باشنيان، سيفهم دون أي تحليل لماذا كل هذا الدعم الإعلامي له، وتقديمه على أنه بطل هوليوودي من قبل وسائل الإعلام الغربية والغربية الناطقة بالعربية، حيث يدعو الرجل صراحةً إلى انضمام أرمينيا للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو إن أمكن، ذلك بالإضافة إلى المطالة بخروج بلاده من التحالف الأوراسي، ورفع شعارات ليبرالية.
ثانياً: إنه لمن الصعب بالنسبة للقوى الغربية تحقيق انتصارات سياسية أولية، أو حتى إعلامية ربما، كتلك التي حصلت في أوكرانيا نظراً للموروث السوفييتي في أرمينيا، بالإضافة إلى عوامل قومية ودينية تربط الأرمن بروسيا منذ أيام القيصرية.
ثالثاً: يبدو أن القوى السياسية الأرمينية، والشعب الأرميني عموماً، قد تعلّم من التجارب التي حصلت ميبدو أن ميزان القوى الدولي وصل إلى تلك الدرجة التي أصبحت فيها الطرق الكلاسيكية الإعلامية والسياسية والاستخبارتية غير مجدية، وذلك نظراً لسببين: يتمثل الأول في: ارتفاع منسوب الوعي الجمعي للشعوب بعد التجارب المريرة خلال العقود الثلاثة الماضية، ويتجسد الثاني: بتجذّر الميزان الدولي الجديد الذي يفتح خيارات أخرى لشعوب تلك البلدان وحكوماتها، وعليه فإن الفرصة متاحة أمام الشعب الأرميني بالاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى، للخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر. خراً في كل من أوكرانيا وسوريا وليبيا والعراق، أي: إن الوعي السياسي الإقليمي الجمعي ربما وصل إلى درجة من النضج باتت معه الألاعيب الغربية الإعلامية السياسية غير مجديّة.
وعليه يمكن القول: إن ما يجري في أرمينيا اليوم يبدو أنه لا ينفصل عن المحاولات الغربية بخلق بؤر توتر جديدة وتأجيج القديم منها، تحديداً على تخوم روسيا والصين، في محاولات لإعاقة تطور منافسي الغرب، ولكن الوقائع تقول: إن هذا المنطق أثبت فشله، وكان آخر مثال على ذلك، هو: الاتفاق الذي حصل بين الكوريتين.