روسيا... وسقوط الورقة الإعلامية
منذ أيام عدة صرح وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، في سياق المعمعان الإعلامي الغربي بخصوص مسألة سكريبال ضد روسيا، قائلاً: إن روسيا تشبه بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، فردت عليه المتحدثة باسم الخارجية الروسية زاخاروفا قائلةً: إن مائة أرنب لا يصنعون حصاناً كما يقول دوستويفسكي نفسه.
هنا نشير إلى أنّ بطل رواية «الجريمة والعقاب» كان قد ارتكب جريمة قتل، ولم يكن هنالك دليل ضده، لكنه في النهاية اعترف من تلقاء نفسه، فيما تقصد زاخاروفا أن مائة من الشكوك والتقارير الإعلامية لا تصنع دليلاً واحداً. هنا نتوصل إلى أن معدي تصريح جونسون، يعترفون بكونهم لا يملكون دليلاً ضد روسيا، لكنهم مصرّون على حماقتهم وفق نموذج البطولة الهوليودية الكرتونية.
في خضم الأحداث
قبل الخوض في سرد بعض تفاصيل الحادثة وتقييمها، لابد بدايةً من التعريف بسيرغي سكريبال، فمن هو الرجل المذكور؟
سيرغي سكريبال روسي من مواليد 1951 التحق بالجيش في الخدمة الإلزامية، حيث تم نقله إلى إحدى الدوائر التابعة للاستخبارات السوفيتيية، وبدأ العمل في السلك الاستخباراتي حتى تم تجنيده من قبل المخابرات البريطانية في التسعينيات، ليسلمهم بعض أسماء عملاء الاستخبارات الروسية، لتتم محاكمته في 2006 بتهمة الخيانة، ومعاقبته بالسجن لـ13 عاماً، ليتم الإفراج عنه في صفقة تبادل سجناء، ويقيم في بريطانيا منذ سنة 2010 حتى تاريخ الحادثة.
وفي الرابع من آذار الماضي، وُجد سكريبال مع ابنته مغمى عليهما في أحدِ شوارع سولسبري البريطانية، ليتم نقلهما إلى المشفى في حالة حرجة، ويتبين فيما بعد تسممهما بمادة كيميائية، حيث يبدأ بذلك استنفار إعلامي بريطاني أمريكي ضد روسيا، متهمين إياها في اليوم التالي بأنها وراء الحادثة، بالإضافة إلى طرد العشرات من الدبلوماسيين الروس من بريطانيا وأمريكا، فيما قامت بعض دول أخرى دعماً للموقف البريطاني بطرد دبلوماسي واحد أو اثنين على الأكثر، باستثناء ألمانيا التي قامت بطرد 4، وأوكرانيا التي قامت بطرد 13 دبلوماسياً روسياً، لتقوم روسيا بإجراءات مماثلة.
نقاط ارتكاز
قبل الانطلاق في تقييم أيةِ حادثة ما على المسرح الدولي، ووضعها في سياقها، لا بد من تثبيت بعض النقاط الأساسية للاستناد إليها، والتي كثيراً ما ينساها أو يتناساها مفطومو السيادة الأمريكية، التي تتراجع لتكون من الماضي:
أولاً: إنّ الولايات المتحدة الأمريكية قوة عالمية، وكانت الأعظم في العقدين الماضيين، لكنها بدأت تتراجع كنتيجة لعاملين أساسيين: انخفاض المساهمة الأمريكية في الناتج المحلي العالمي، وظهور شركاء جدّيين وندّيين قادرين على مقارعة الولايات المتحدة، ونخص هنا روسيا والصين.
إن انعكاسات التراجع الأمريكي العالمي كثيرة، ولكن ما يمكن تعميمه في هذا الاتجاه، هو: انخفاض درجة تحكم الولايات المتحدة في القضايا والمسائل العالمية الجارية، وخصوصاً تلك التي تقع في المجال الحيوي الروسي الصيني.
ثانياً: إن روسيا، قوة دولية صاعدة، أصبح لها من الوزن ما يخولها بفرض نفسها على مجمل القضايا العالمية الجارية، والمساهمة في حلها جذرياً.
في الناحية الحقوقية
بدايةً، لا يمكن الجزم بالجهة التي اغتالت سكريبال، فالتحقيق الجدّي هو الوحيد القادر على تحديد تلك الجهة، إلّا أنّ لهذه المسرحية عدة نقاط يمكن تأكيدها استناداً للإخراج السيئ والمتكرر من قبل دوائر الاستخبارات الغربية، فقد أعلن المختبر البريطاني، الذي قام بتحليل المادة التي استخدمت في استهداف سكريبال، أنه لا يمكن تحديد الجهة المنتجة للمادة المستخدمة، أو الدولة المصنعة لها، كما أن لجنة التحقيق لا تتضمن محققين روساً للمساهمة، أو الرقابة على عملية التحقيق، كون روسيا الطرف المتهم في القضية من قبل بريطانيا وأمريكا، دون امتلاك دليل مادي وجدّي للإدانة، فقط يملكون الحقد السياسي والنكاية التي لا تقدم ولا تأخر، وكل ذلك في سبيل التأثير على روسيا إن أمكن، وفي النهاية يمكن طرح السؤال التالي: ماذا يمكن أن يملك جاسوس بريطاني من المعلومات وهو يقيم في بريطانيا من 8 سنوات؟ وهل حقاً روسيا بحاجة إلى اغتياله؟!
إن ما يمكن ملاحظته مؤخراً: أن موضوع قضية سكريبال قد أصبح الخبر الثاني وأحياناً الثالث على محطات الإذاعة الغربية، مما يعني أن الحملة الإعلامية التي تلت الحادثة قد بلغت مداها، وبدأت عملية الجزر دون تحقيق ما كان مطلوباً تحقيقه، فروسيا لم تعترف باقترافها للحادثة، كما لم تقدم تنازلات تذكر في أي من سورية أو اليمن أو أوروبا الشرقية.
من الناحية السياسية
فيما يخص الناحية السياسية من الموضوع، يمكن التأكيد على نقطتين أساسيتين:
أولاً: إذا كانت الألاعيب الإعلامية قد أصبحت الأداة الأساسية التي تلجأ إليها القوى الغربية للضغط على روسيا، فهذا ينم على أن الأدوات التي كان يُعتمد عليه سابقاً في الضغط على الخصوم لم تعد تُجدي، وإن جعبتها قد فرغت ممّا يمكن الضغط به على الخصوم، وهذا يعني: أن مقدار التراجع قد بلغ مدىً كبيراً.
ثانياً: الحملة الإعلامية كانت لهدفين اثنين، أولهما: صرف نظر الرأي العام المحلي البريطاني والعالمي عن التراجعات الجارية دولياً وداخلياً، وثانيهما: دفع روسيا إلى تقديم ما أمكن من التنازلات السياسية في هذا الملف أو ذاك، ولكن أي شخص يملك قدراً قليلا من المعرفة سيستنتج أن الألاعيب الإعلامية لا تنفع ضد القوى السياسية الدولية الجدّية، وتراجع الحملة الإعلامية هو جزء من التراجع العام الغربي في مواجهة القوى الصاعدة دولياً.
إن التحركات الاعلامية التي يمكن أن تلجأ إليها القوى المتراجعة، لا يمكن أن تؤدي في أفضل الأحول إلّا إلى كسب بعض الوقت، وتأخير روسيا عن التربع في مكانها الطبيعي، كقوة دولية مهمة، لأن لها من الوزن ما يسمح لها بفرض نفسها، بعبارة أخرى: تراجع فعّالية الهجمات الإعلامية هو جزء من التراجع العام للقوى ذاتها، التي تحاول دون طائل تغيير مسار التاريخ.