حرب الأنابيب: السياسة ضدّ الجغرافية

حرب الأنابيب: السياسة ضدّ الجغرافية

كتب توم لونغو، مقالاً يوجز فيه «الحرب» الدائرة بين أنابيب الغاز المختلفة، والتي يمكن إجمالها ضمن الصراع «شرق_ غرب» أو بين القوى الصاعدة التي تستمر بكسر احتكارات الغرب، ومركزه الولايات المتحدة من جهة، وبين الولايات المتحدة التي تحاول أن تعيق هذه الجهود بشتّى الوسائل من جهة أخرى.

يذكر الكاتب العناوين التي عصفت بوسائل الإعلام السائد حول العالم، وأهمها الذي ذكره موقع «oilprice.com» والمعنّون: «هل هذا هو أكثر الأنابيب حسماً في العالم؟» والذي يحاول منحنا الانطباع بأنّ الغاز الأذربيجاني سوف يغيّر وجه سياسات الغاز في أوروبا. ويقول: «يبدأ المقال بالقول: تريد أوروبا أن تتحرر من الاعتماد على الغاز الروسي... هذه كذبة. فأوروبا لا تريد ذلك كقارة، ولكنّ قادة الاتحاد الأوربي المصطفون إلى جانب الولايات المتحدة، والذين يرون روسيا كعدو، يريدون أن يتحرروا من الاعتماد على الغاز الروسي».
ويذكر المقال سبب رغبة أوروبا بالغاز الروسي: «معظم أوروبا ترغب أن تزودها روسيا بالغاز بسبب: أولاً لأنّه زهيد الثمن، وثانياً: لأنّه وفير. أمّا الولايات المتحدة فلا تريد لروسيا أن تكون قوية لأسباب جيوسياسيّة. ويوافق التكنوقراط الأوربيون على ذلك، لأنّ روسيا قويّة تملك أكثر من 40% من مبيعات الغاز الأوربي، مما يعني عدم قدرة زعزعتها عبر العملات والحروب بالوكالة».
الغاز الجنوبي الخلبي
تمّ في عام 2008 في مقالٍ في صحيفة المال «فايننشال تايمز» الإعلان عن أنّ «ممرّ الغاز الجنوبي» سيبلغ طوله حوالي 4000 كلم، وسيعبر بحر قزوين ليصل جنوبي أوروبا، وبأنّه سيوصل عند إكماله عام 2019 مقدار 60 إلى 120 مليار متر مكعب من الغاز الأذربيجاني.
تم تقدير الكلفة في وقت المفاوضات بأنّها تزيد عن 45 مليار دولار. وكما يقول الكاتب: «من الغالب أن يكون هذا المبلغ قد دفع على الفساد بأشكاله المتعددة. فليس هنالك أفضل من 45 مليار دولار تدفعها الولايات المتحدة للنظام التابع لها في أذربيجان، ولشركة «بريتش بتروليوم» التي تملك موارد حقول غاز شاه دينيز، دون أن تملك سوقاً لتصرف فيه هذا الغاز».
وتستخدم الولايات المتحدة دول البلطيق وبولندا في سبيل تأخير أو إلغاء مشاريع إيصال الغاز الروسي إلى أوروبا: المشاريع التي تتوق لها بلدان مثل: إيطاليا واليونان وبلغاريا.
خطّ الغاز الجنوبي الحقيقي
أدّت الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي على بلغاريا عام 2014 إلى إلغاء مدّ أنابيب «السيل الجنوبي» من روسيا عبرها. حيث كان يُخطط مد الأنابيب من روسيا عبر البحر الأسود إلى بلغاريا، والتي كانت ستنتفع بشكل كبير من مليارات أجور الترانزيت السنوية عبرها. ولهذا غيّر الشعب البلغاري حكومته العام الماضي، وتخلّص من الحكومة التابعة للولايات المتحدة التي أبقتهم فقراء.
لكنّ روسيا وشركة غاز الدولة «غازبروم» التي تقف خلف مشروع «السيل الجنوبي»، قاموا بانعطاف سريع، وأعلنوا إعادة تخطيط المسار، ليمر من تركيا. وبات يدعى المشروع الجديد باسم «السيل التركي» والذي يصبّ في اليونان. تفاوضت هنغاريا في الصيف الماضي من أجل مدّ خط السيل التركي إليها. جميع الدول المشاركة تريد الاستفادة من أجور الترانزيت.
سيوصل المشروع الذي انتهت المرحلة الأولى منه، وبدأت المرحلة الثانية المخطط أن تنهيه هذا العام: 15,75 مليار متر مكعب سنوياً، وستكون تكلفته 12 مليار دولار فقط، وهو يمرّ من البحر الأسود.
«السيل الشمالي 2»
وعدم الارتياح الذي يسببه
يقول الكاتب: «دعونا نركز على أنبوب السيل الشمالي 2 الأكثر جدلية. الأنبوب الذي سيضاعف قدرة أنبوب السيل الشمالي الموجود، والذي سيجلب الغاز الروسي زهيد الثمن من سانت بطرسبورغ إلى ألمانيا». فهو يجلب فقط 55 مليار متر مكعب إلى الاتحاد الأوربي عند تاريخ كتابة هذا المقال. سيقوم «السيل الشمالي 2» بمضاعفة هذه الكمية. وهو بطول 1250 كم فقط، وسينتهي العمل به العام القادم. وما هي تكلفته؟ فقط 10 مليارات دولار.
وشرح المقال: «عملت غازبروم جاهدة لتجعل هذا المشروع ذي ملكيّة أوروبيّة، وذلك بمشاركة خمسة شركات غاز ونفط أوربية كبرى، بملكية نصف المشروع. تقدمت بولندا، وأعلنت بأنّ أمر الشراكة غير قانوني، وأنّ على غازبروم أن تمضي لوحدها بالأمر. فعُقدت في نهاية المطاف صفقة، حيث أصبح الشركاء السابقون مموّلين، ومنحوا قرضاً مباشراً لبناء الأنبوب. وكانت قيمة القرض هي ذاتها التي كانوا يهمّون بوضعها في الشراكة».
فعل الاتحاد الأوربي كلّ ما يستطيع لإيقاف «السيل الشمالي 2»، لدرجة أنّ رئيس المجلس الأوربي، دونالد توسك، استمرّ بحثّ الدول الأوربيّة على تبني قواعد أوربية للغاز، كانت تستهدف بشكل مباشر أنابيب الغاز البحرية، التي تغذي الاتحاد الأوربي. لكنّ فرنسا وألمانيا ترددتا جداً في الموافقة على هذا الأمر.
لقد قام الاتحاد الأوربي من قبل، بفرض قواعد مختلفة على ملكية الأنابيب والموقّعين على العقود وعلى التراخيص، وهو ما سهّل الأمر على بلغاريا لإلغاء مشروع «السيل الجنوبي». وذلك كله بالطبع لإرضاء الولايات المتحدة، التي تحاول تحجيم روسيا، والإبقاء على هيمنتها على الاتحاد الأوربي.
السياسة والشعب
تقوم النخب السياسية غير الشعبيّة، في أوروبا، بتفضيل مصالحها على مصالح شعوبها، وهذا أمر مفهوم ومتوقع. وذلك مثل تبديد رأس مال مهم في مشاريع زائفة مثل: مشروع «ممرّ الغاز الجنوبي». وإن لم تصدقوا هذا الأمر، فما عليكم إلا النظر إلى أوكرانيا، التي تقوم منذ ثلاثة أعوام ونصف بشراء الغاز الروسي من ألمانيا، أو بولندا، في محاولة تجنب شراءه بشكل مباشر من «غازبروم». لقد أغلقت الأعمال والمدارس في أوكرانيا ببساطة، بسبب عدم قدرتها على تأمين المال اللازم لتدفئة الأبنية. ولكن كما قال الكاتب: «ومع الشتاء القاسي هذا العام، فقد عادوا عن قرارهم أخيراً، وسيبدؤون بشراء الغاز من غازبروم بشكل مباشر، بعد أن حلّت المسائل القانونية من قبل محكمة ستوكهولم للتحكيم».
لكنّ الزيف والكذب الذي يفقر الشعوب، لا يمكن أن يدوم، ولا يمكن بالتأكيد أن يخالف حقيقة: أنّ الاقتصاد الحقيقي يصنع السياسة الحقيقيّة، فكما ينهي الكاتب: «غازبروم الآن، رغم كلّ الأحاديث الخطابية، ورّدت كمية قياسية من الغاز إلى أوروبا عام 2017، وستزيد في الغالب هذه الكمية المسلّمة بنسبة 6% في 2018».