تداعيات السياسات النيوليبرالية في مصر!
يقترب موعد الانتخابات الرئاسية في مصر، والمقررة في الفترة ما بين 8 شباط حتى 8 أيار من العام الحالي، ذلك قبيل انتهاء ولاية الرئيس عبد الفتاح السيسي في 7 حزيران القادم، وهي ثالث انتخابات رئاسية بعد ثورة 25 يناير.
تأتي الاستحقاقات الانتخابية لهذا العام في مرحلة مفصلية من تاريخ مصر، حيث ارتفعت وتيرة الهجمات الإرهابية، بالتزامن مع تراجع المؤشرات الاقتصادية، وفي ظل الحديث عن أن الرئيس السيسي هو المرشح الوحيد للانتخابات بعد خروج منافسيه، خصوصاً رئيس الأركان الأسبق سامي عنان، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق، حيث يشكل ذلك كله امتداداً لحقبة من السياسات النيوليبرالية وقمع الحريات السياسية. في هذا السياق نقدم فيما يلي بعضاً مما جاء في دراسة أعدها الباحث محمد أشرف البيومي بعنوان «تداعيات اجتماعية للاقتصاد السياسي النيوليبرالي»، تسعى إلى رصد التداعيات المدمرة للنهج النيوليبرالي على المجتمع المصري.
التلازم الاقتصادي السياسي
بدايةً، يؤكد الكاتب أنه عند رصد التداعيات الاجتماعية والثقافية لـ «الانفتاح الاقتصادي» فإنه لا يمكن الفصل بين النهج الاقتصادي والنهج السياسي، وإلا سنصل إلى استنتاجات خاطئة. حيث أن تبني نهج «الانفتاح» الاقتصادي سينتج عنه تبعية سياسية واقتصادية من الصعوبة بمكان الانفكاك منها.
وفي الحالة المصرية، تلازم هذا النهج الاقتصادي مع اتفاقيات «كامب ديفيد»، واستمر لمدة أربعة عقود، مما أدى إلى نتائج سيئة اجتماعياً واقتصادياً، فاقمت من معاناة غالبية الشعب. هذا بالإضافة إلى ضرب القيادة السياسية للقوى التقدمية والوطنية، وإطلاق العنان لـ «لإخوان المسلمين» وتيارات الإسلام السياسي. وفتح الباب للمنظمات «الغير حكومية» الدولية، بالتزامن مع تراجع دور الدولة، مما أدى إلى ما يشبه غزو ثقافي واقتصادي وسياسي.
ووفقاً للكاتب، فإن مصر قد عاصرت ثلاث حقبات مورست فيها نماذج سياسية واقتصادية مختلفة، أدت إلى تغيرات اجتماعية هائلة، هذه الحقبات الثلاث هي: عصر الملكية والاستعمار البريطاني، حقبة المشروع الناصري والتخطيط الاقتصادي، وعصر «الانفتاح» و«السلام»، وهي الحقبة الممتدة حتى الآن والتي سنركز عليها هنا.
تداعيات «الانفتاح» و«السلام»
اتسمت مرحلة «الانفتاح» و«السلام» في مصر بغياب أهداف مدروسة وواضحة من أجل التنمية الاقتصادية، وصعود النيوليبرالية في المجالات كافة، سواء الاقتصادية أو السياسية، واتباع قوى السوق، بالتلازم مع تقليص أو إلغاء دور الدولة في التخطيط وتوزيع الثروة.
الأمر الذي كانت نتائجه الاقتصادية والسياسية، التركيز على القطاعات غير الإنتاجية، واتساع كبير في الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وارتفاع معدلات البطالة، وخصخصة شركات القطاع العام، وتسهيل الاستثمارات الأجنبية، بالتزامن مع تبرير السلام مع الكيان الصهيوني، والارتهان لقروض الغرب وشروطه، وهو ما نتجت عنه تداعيات اجتماعية خطيرة.
الديون والمنظمات غير الحكومية
أدت السياسات النيوليبرالية إلى وقوع مصر في شرك الديون والمعونات الأجنبية، التي تعتبر أداة فعالة للهيمنة علي البلاد المستهدفة، واحتواء التقدم الاجتماعي بها، وكان أبرزها: المعونات الأمريكية لمصر، والتي خلقت شريحة من المستفيدين من برامجها، هم رجال الأعمال وليس الفقراء على حسب الادعاءات، وهو ما عبرت عنه وكالة التنمية USAID بالقول وضوحاً: «أن مشروعات التسليف لم يكن يقصد بها، ولم تنشأ، لتلبي احتياجات المنشآت التجارية الصغيرة».
كما صاحب نشاط الوكالة حملة مكثفة وواسعة منذ منتصف السبعينات، لدراسة ومسح الأوضاع الاقتصادية والسياسية والديموغرافية والإدارية في مصر، بوساطة المعاهد ومراكز البحوث. كذلك استخدمت المعونة كممرٍ للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
صفقات فاسدة
من مفرزات مرحلة الانفتاح، التعامل مع السوق المصرية كحقل تجارب، وتصدير الدول الصناعية لها منتجات فاسدة، لا تتوافق مع المعايير الدولية. ويذكر الكاتب أمثلة على ذلك، منها: مبيد «الجالكرون» المسبب للسرطان، والذي تنتجه شركة «سيبا- جايجي» السويسرية للأدوية، والتي اعترفت بآثاره السيئة على أطفال مصريين، ومبيد «اللبتوفس» الذي تسبب بوفيات في مصر، كذلك قيام «النامرو» بتجريب مادة مسببة للسرطان على مئات الفلاحين من زارعي الأرز في محافظتي الفيوم والبحيرة، وذلك لاختبار كفاءتها في قتل قواقع تعيش فيها البلهارسيا، بالإضافة إلى محاولات لدفن نفايات كيمائية سامة، ودفن مواد مشعة خطيرة بمصر. وتعرضت بعض نساء مصر في الثمانينيات إلي تجريب مانع للحمل اسمه «نوربلانت»، يزرع تحت الجلد وله تأثيرات صحية واجتماعية سلبية لا تعرف بها النساء. كل تلك الصفقات التي تمت تحت مسمى الانفتاح، دفع ثمنها الشعب المصري من دمه وصحته، وكان لها آثار اجتماعية خطيرة.
السياسات مستمرة
اليوم ورغم الاحتجاجات الشعبية على الوضع المعيشي، والتي اندلعت منذ عام 2011 وأدت إلى تغيير شكلي للنظام، لاتزال السياسات النيوليبرالية المتبعة في مصر مستمرة منذ ما يسمى «حقبة الانفتاح والسلام». وكان آخرها الارتهان لصندوق النقد الدولي وشروطه، بعد أن وافق على منح مصر قرضاً بقيمة 12 مليار دولار عام 2016 على دفعات مشروطة بقيام الحكومة المصرية بإجراءات «إصلاح اقتصادي»، وفقاً لرؤية الصندوق، متمثلة بتحرير سعر الصرف، ورفع أسعار الوقود والكهرباء والمياه، ورفع سعر الفائدة، وزيادة الضرائب، ومن المتوقع الحصول على الدفعة الأخيرة من القرض البالغة 2 مليار دولار في عام 2019.
أدت تلك الإجراءات إلى مفاقمة معاناة الشعب، حيث اختتم المصريون عام 2017 مع ارتفاع نسبة من هم تحت الفقر إلى حوالي 27%، ونسبة البطالة إلى 28%، وارتفاع أسعار الوقود بنسبة 50%، وارتفاع معدل الدين العام بنحو 100%. وهو ما يعني ارتفاع درجة عدم الرضى الاجتماعي، وتفاقم معاناة غالبية الشعب، التي قد تؤدي إلى انفجار اجتماعي وموجة احتجاجات جديدة، للمطالبة بتغيير الوضع المعيشي، مع استمرار الحكومة المصرية على النهج الاقتصادي نفسه المولد للأزمات.
رغم أن مصر تشهد تحولاً يبدو واضحاً في السياسات والتحالفات الخارجية، كان أبرزها: تطور العلاقات مع روسيا، من خلال مشروع الضبعة النووي، الممول بقرضٍ روسي قيمته 25 مليار دولار، وكذلك عقود التسليح التي تطورت باتجاه عقود تكنولوجيا مشتركة لتجميع الدبابات محلياً في مصر، وإنجاز التنسيق الثلاثي مع اليونان وقبرص حول ترسيم الحدود البحرية، كخطوة متعلقة باستثمارات الغاز الهائلة والممكنة في هذه المنطقة، بالإضافة إلى محاولة تعزيز دورها في المنطقة ولعب دورٍ فاعلٍ في ملفي الأزمة السورية والمصالحة الفلسطينية. لكن يبقى مستوى العلاقات مع المنظومة المالية الغربية، والسياسات النيوليبرالية المطبقة في الداخل، الحلقة الأضعف في السياسة المصرية، وهو ما يجب القطع معه في ظل التهديدات الخارجية ومستوى الاحتقان الاجتماعي المتولد عن تلك السياسات، كضرورة يجب على من سيحكم مصر خلال الفترة القادمة وضعها على سلم الأولويات.