إلى اليسار: تجذير السياسات مطلب شعبي
في ظل الانتخابات العامة البريطانية التي جرت أواخر الأسبوع الفائت، تصاعدت المنافسة بين الحزبين الرئيسين: حزب المحافظين الحاكم الذي حصل على أغلبية لا تخوله لتشكيل الحكومة منفرداً، وحزب العمال البريطاني الذي عزز مواقعه ليحل ثانياً بإضافة 32 مقعداً إلى حصته البرلمانية، في وقتٍ أجرى فيه الحزب تبدلات توجب النظر.
خلافاً للبرامج «الوسطية» التي كان يطرحها حزب العمال البريطاني في معظم الانتخابات التي خاضها سابقاً، قدَّم الحزب هذا العام برنامجه الانتخابي الذي يحمل «رؤيةً لتحسين حياة الملايين بشكلٍ جذري». وبغض النظر عن النتائج التي أفضت إليها الانتخابات، فإن أهمية البرنامج المطروح تتجاوز في دلالاتها حدود المعركة الانتخابية.
«من أجل الأغلبية، وليس الأقلية»
يؤكد الباحثان البريطانيان، ماكس شانلي ورونان برتنشاو أن حزب العمال «لم يكن حزباً اشتراكياً في يومٍ من الأيام، بل كان دائماً يحتوي على بضعة أفكار اشتراكية... لكن، ولأول مرة منذ زمنٍ طويل، تأخذ الاشتراكية حيزاً جدياً من طروحات الحزب».
تبلور رأي شانلي وبرتنشاو المذكور آنفاً من خلال برنامج الحزب لعام 2017، والذي حمل عنوان: «من أجل الأغلبية، وليس الأقلية»، وهو ما يعكس بحسب كثيرين طور صعود الحزب وتخليه عن الطروحات الوسطية التي اعتمدها في انتخابات عام 2005، ويقدِّم للجيل البريطاني الجديد الفرصة الأولى للتصويت للسياسات التي من شأنها أن تشير (مجدداً) إلى التحول الجاري عالمياً نحو اليسار.
رغم مرونته في اللغة التي حملها، إلا أن مقترحات برنامج حزب العمال هذا العام هي مقترحات جذرية بما لا يقاس ببرامجه السابقة: تأكيد القدرة على وضع حد لعصر التقشف، وتشكيل أرضية اقتصادية جديدة من شأنها أن تنقل الثروة والسلطة من رأس المال إلى العمال.
وعلى هذه الأرضية، تتزايد المؤشرات حول تمتع برنامج الحزب بشعبية كبيرة في الداخل البريطاني؛ فخلال أسبوع من رفع البرنامج على الإنترنت، جرت مشاركته عشرات الآلاف من المرات، وكان الإقبال عليه أفضل بما لا يقارن ببرنامج «المحافظين»، فيما أشارت بعض استطلاعات الرأي إلى أن حزب العمال استطاع بعد أن نشر البرنامج كاملاً أن يضيف إلى رصيده حوالي خمس نقاط على حساب خصومه في الحزب الحاكم. وبعد ثمانية عشر شهراً من الصعوبات التي واجهت القيادي في حزب العمال، جيمي كوربين، يجد الأخير نفسه اليوم على أرضية ثابتة لأول مرة.
ماذا يقترح البرنامج؟
برنامج حزب العمال لهذا العام محمول على ثلاثة روافع: «تأميم المرافق الرئيسة التي أدت خصخصتها إلى رفع تكاليف المعيشة»، و«تغيير آليات سوق العمل لوقف السباق نحو الهاوية الذي تفرضه الشروط والظروف القائمة اليوم»، و«بناء اقتصاد اشتراكي تتحسن فيه الضرورات الأساسية لتأمين الحياة الكريمة من تعليم وإسكان ورعاية اجتماعية ودعم اجتماعي».
ويقترح برنامج حزب العمال «إعادة السكك الحديدية والبريد والطاقة والمياه مرة أخرى إلى قطاع الدولة، مما شأنه أن يزيد الحد الأدنى للأجر إلى عشرة أضعاف في الساعة، وإلغاء عقود العمل التي لا تشمل عدداً معيناً من ساعات العمل، وحظر التدريب غير مدفوع الأجر، وضمان حقوق العاملين بشكل حر (freelancer)، وكذلك حقوق النقابات العمالية في الحضور الفاعل والقوي داخل مكان العمل».
وبموجب مبادئ الحكومة العمالية التي ستتشكل في حال فوز حزب العمال، سيتم «بناء مليون منزل، نصفهم مملوك للقطاع العام، وسيجري إدخال قوانين تضبط عمليات الإيجار. كما سيتم إلغاء الرسوم الدراسية الجامعية، وستكون هنالك رعاية مجانية للأطفال الذين تخطوا العامين، ووجبات مدرسية مجانية لكل طفل في المدرسة الابتدائية، وخدمات تعليمية وطنية تستثمر حوالي 6.3 مليار جنية استرليني لتحسين المدارس. وستجري إعادة تشكيل دائرة الصحة الوطنية، مما يخرج المسألة الصحية من قيود القطاع الخاص، وكفالة المعاشات التقاعدية لكبار السن، فضلاً عن 2 مليار جنية إسترليني سيجري استثمارها في الرعاية الاجتماعية».
كيف يمكن تحقيق هذا البرنامج؟
لتحقيق هذا البرنامج، يؤكد حزب العمال على مجموعة من المبادئ العامة التي حاول كثيراً تجنبها في السنوات الماضية: «إعادة توزيع الثروة، حيث سيجري تأمين مبلغ 52.5 مليار جنيه إسترليني من خلال فرض الضرائب على الشركات الكبرى، وتلك التي تزيد أرباحها السنوية عن 80.000 جنيه إسترليني». فضلاً عن مقترحات أخرى، كـ«حملة منظمة ضد عمليات الاحتيال والتهرب من الضرائب، وضريبة لمصلحة الفقراء تُفرض على المؤسسات المالية والمدارس الخاصة ذات الرسوم الباهظة». وستستفيد الغالبية العظمى من الشعب البريطاني من برنامجٍ تدفع ثمنه 5% من السكان: «من الأقلية لمصلحة الأغلبية».
ويتعهد حزب العمال بـ«التدخل المباشر في سوق الطاقة، من خلال إنشاء شركات طاقة مملوكة إقليمياً، ومدارة ديمقراطياً، إلى جانب إعادة تأميم الشبكة الوطنية». وكذلك، يشمل برنامج الحزب «إزالة جميع المواد الغذائية الأساسية من السوق، وتأمينها بشكلٍ مجاني وعام للشعب البريطاني».
دلالات النتيجة الانتخابية
رغم الاستفادة الكبيرة التي حققها حزب العمال البريطاني باحتلاله الكتلة الثانية في البرلمان، ورغم خسارة حزب «المحافظين» ما يقرب من 12 مقعداً على الأقل، إلا أن المؤشر الأكثر أهمية لهذه الانتخابات لا يكمن في نتائجها، بل في الحقيقة التي رسختها.
كان حزب العمال البريطاني حتى الأمس القريب يحافظ على «مستوى معين» متدن من الأفكار الاشتراكية الواردة في خطابه السياسي. غير أن ذهابه نحو تعميق هذا الخطاب وتجذيره يعكس طبيعة المرحلة التي تمر فيها البشرية، لا سيما في دول المركز الرأسمالي كما هو الحال في دخول بريطانيا طور أزمة واضحة، حيث إنه حتى تلك القوى التي تميل إلى اللحاق بـ«مزاج الناس»، وهو ما تقول أنه دفعها سابقاً إلى «تهذيب» برامجها السياسية (ما يعني في هذه الحالة تفريغها من مضمونها الاشتراكي) مضطرة اليوم إلى أن تفعل العكس تماماً...
تغيّر في المزاج العام
أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد «كومرس» مؤخراً أن 52% من الناخبين البريطانيين يريدون إعادة خطوط السكك الحديدية للقطاع العام، في حين تقلّصت نسبة الرافضين إلى مستوى غير مسبوق (22%)، فيما ارتفعت نسبة المطالبين بتأميم «البريد الملكي» (شركة الخدمات اللوجستية البريطانية) إلى أكثر من نصف الناخبين، وكذلك أشار 71% منهم إلى أنهم يؤيدون إلغاء عقود العمل التي لا تشمل عدد ساعات محددة
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 814