الأطلسي و«مجانين» المرحلة الانتقالية

الأطلسي و«مجانين» المرحلة الانتقالية

ليس جديداً النهج الذي سارت عليه الإدارة الأمريكية منذ أواسط القرن الماضي، أسنِد منصب «رئيس الولايات المتحدة الأمريكية» لشخصية ملتبسة، وسيغدو حينئذٍ سلساً تبرير حزمة كاملة من السياسات المفروضة مسبقاً على جدول الأعمال، وتعليقها على «شمَّاعة» الرئيس الجديد ومزاجه «الغامض».

انقشع غبار البروتوكولات الإعلامية لاختتام أعمال قمة «مجموعة السبعة الكبار G7» في مدينة تاورمينا الإيطالية، ليحلَّ مكانه سعير الاشتباك السياسي بين الولايات المتحدة وألمانيا، مفصحاً عن خلافات شديدة شهدتها القمة، تتجاوز في حدتها حدود التباينات الاعتيادية التي تجري طبيعياً بين الحلفاء.
منذ زيارة إنجيلا ميركل إلى واشنطن في شهر آذار الماضي، بدا مثيراً للانتباه الحديث المكرَّر عن فشل المستشارة الألمانية في الوصول إلى أرضيةٍ مشتركة مع نظيرها الأمريكي، دونالد ترامب. فرغم أن برلين لا تزال تجاهر بالتزامها في تنفيذ خطة حلف شمال الأطلسي «الناتو»، المتضمنة تعهُّد كل دولة من دول الحلف برفع إنفاقها على الدفاع إلى 2% من إجمالي ناتجها المحلي بحلول عام 2024، لا يملُّ الرئيس الأمريكي من «انتقاد» حلفائه الأوروبيين وتقريع تلك الدول التي لا تُبدي اهتماماً جدياً بخطة الناتو (انظر الشكل رقم1)، ولا يجد ضيراً في هذا السبيل من أن يلوِّح – بوصفه «الحليف الحريص»- بعصا ضربات إرهابية جديدة في أوروبا على غرار هجوم مانشستر مؤخراً.
ألمانيا تتفلت من ضوابط ما بعد الحرب
بعد «رحلة الأيام التسعة» التي قضاها ترامب خارج الولايات المتحدة منتقداً تقصير حلفائه في «الناتو»، اختتم الرئيس الأمريكي قمة «السبعة الكبار» بتصعيدٍ خطابي ضد ألمانيا التي «نواجه عجزاً تجارياً معها»، واصفاً فائضها التجاري بـ«السيء للغاية»، ليصل الأمر إلى حدود خروج الولايات المتحدة من اتفاق باريس حول المناخ (وهو ما تبدي ألمانيا اهتماماً بالغاً به).
من جهتها، وبعد يومٍ واحد من انتهاء القمة في إيطاليا، ردَّت ميركل خلال كلمة أمام أنصارها في ميونخ: «الأوقات التي يمكن أن نعتمد فيها بشكلٍ كامل على الآخرين قد انتهت تقريباً- لقد واجهتُ ذلك في الأيام القليلة الماضية: نحن الأوروبيين يجب أن نأخذ مصيرنا في أيدينا». وفي هذا الوقت، كان وزير الخارجية الألماني، سيغمار غابريل، يتمتع بهامشٍ أوسع للتعبير عن الخلاف، منتقداً سياسة ترامب «قصيرة الأمد التي أضعفت الغرب وألحقت أضراراً بالمصالح الأوروبية»، معتبراً أن «أي شخص يعمل على تسريع التغير المناخي من خلال إضعاف حماية البيئة، ويبيع المزيد من الأسلحة في مناطق النزاع، ولا يرغب في حل النزاعات الدينية سياسياً، يعرِّض السلام في أوروبا للخطر».
وفي هذا السياق، بدا لافتاً حديث ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، الذي اعتبر تصريحات ميركل «نقطة تحول»، وأن السيناريو الآن هو «تماماً السيناريو الذي حاولت الولايات المتحدة أن تتجنبه منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية».
«الناتو» في خدمة مَن؟
في العودة إلى أسباب نشوء حلف «الناتو»، يتبيَّن أن الهدف الأساسي من تشكيل الحلف العسكري في عام 1949، كان الوقوف في وجه الاتحاد السوفييتي المنتصر في الحرب العالمية الثانية، أي الحفاظ على خطوط دفاع للولايات المتحدة في وجه «الأوراسية» التي تشكِّل كابوساً بالنسبة لها، وليس للحفاظ على أمن الحلفاء الأوروبيين كما يجهد المسؤولون الأمريكيون لوصف الأمر.
منذ عام 1955 وصعوداً، كان الدور الأمريكي دافعاً أساسياً للسيادة الألمانية على أوروبا، ذلك في ظلّ فترة الرضا الأمريكي إزاء الموقف الضعيف لبرلين ما بعد الحرب، وكان هذا الموقف الألماني خائر القوة محمولاً على ارتفاع الوزن النوعي لواشنطن عالمياً. لكن، ما الذي يدفع برلين اليوم – وهي القوة الاقتصادية الأوروبية الأولى- للرضوخ؟
مفترق طرق
«مربط الفرس» هنا هو الموقف من روسيا تحديداً، ومن المحور الصاعد عالمياً بوجهٍ عام: نعم، الحل الوحيد الماثل أمام واشنطن اليوم هو محاولات تقييد الخصوم، ووضع العراقيل في طريق صعودهم، ويتطلب ذلك زيادات في الإنفاق العسكري ورفع مستوى التوتر على الحدود مع روسيا، وغير ذلك الكثير مما لا تتحمل الولايات المتحدة – المتراجعة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً- أن تسدّ نفقاته بنفسها.
في المقابل، وبعيداً عن الدعاية الإعلامية، ليس لدى برلين ما تخشاه موضوعياً من القطب الصاعد؛ إذ ثمة مكان لها في المشاريع الاستراتيجية التي تسير، ببطء لكن بثبات، فوق رماد مرحلة الهيمنة الأمريكية، وليس لديها ما يكفي من الحماقة – على ما يبدو- كي تدفع بنفسها فاتورة المشروع الأمريكي في أوروبا، وهنا نذكر أن «عراك ميركل - ترامب» كان يجري في ظل الزيارتين المهمتين لكلٍّ من رئيس مجلس الدولة الصيني، لي كه تشيانغ، ورئيس الوزراء الهندي، نارندرا مودي، إلى برلين.
إن مرحلةً انتقاليةً تعيشها واشنطن اليوم بين زمنين: من زمن السيادة إلى زمن الانكفاء. وما يحاول ترامب (الرئيس المجنون المضطرب، بحسب الدعاية الغربية) أن يفعله في دفع الدول الأوروبية نحو تحمل عبء تكاليف العسكرة على الحدود الغربية لروسيا، هو الضرورة الأمريكية التي تتجاوز «رغبات» الرؤساء و«طِباعهم».
إلى هنا، تبقى الإشارة الضرورية إلى أن البشرية تعيش المرحلة الأخيرة من عمر حلف الناتو، الذي يمكن القول إنه يستمدّ أوكسجينه اليوم من التزامات الدول الأكثر عرضة للدعاية والترويع من «الشيطان الروسي»، فيما يبدو الاتجاه العام لدى الدول المركزية من أعضاء الحلف ميالاً في اتجاه تخفيض الإنفاق المباشر عليه (انظر الشكل رقم 2).

    

معلومات إضافية

العدد رقم:
813