بعد تقاعس الغرب وفشله: هل تتنفس ليبيا؟
تعرضت ليبيا لأقسى عمليات السلب والنهب الغربي، منذ غزو «الناتو» للبلاد في مطلع العقد الحالي. حتى الأمس القريب، بدا وضع النهب هذا مستمراً بلا رادع له، وكانت التنبؤات تصل إلى استنتاجٍ مفاده: إن المسارات الكارثية هي الحتمية في الحالة الليبية. فما الذي تغير؟
على وقع زيارة قائد الجيش الليبي، خليفة حفتر، إلى حاملة الطائرات الروسية، «الأميرال كوزنستوف» التي رست في شرق ليبيا في طريق عودتها- بعد أن أنجزت مهامها الرئيسة في إطار عملية مكافحة الإرهاب في سورية- إلى الأراضي الروسية، خرجت تحليلات عدة، تشير إلى إمكانية أن تجد البلاد بديلاً دولياً يؤمن لها استعادة هيمنة جهاز الدولة على مؤسساته.
كانت الحكومة الروسية قد استقبلت «حفتر» في موسكو خلال الشهر الفائت، في سياق عملية البحث الجارية عن إمكانية توريد السلاح إلى ليبيا- التي فُرض على جيشها حظرٌ للتسلح- لإنجاز مهمة مكافحة الإرهاب، والتي أبدى فيها الغرب تقاعساً ملحوظاً منذ غزوه للبلاد، ودوراً أساسياً في دعم التنظيمات الإرهابية التي سيطرت، في نهاية المطاف، على جزء من عائدات النفط الوطني الليبي، لاستخدامه في توطين الإرهاب في ليبيا، وتجذيره، وجعل ليبيا «قاعدة انطلاق» وانتقالاً للتنظيمات الفاشية الجديدة نحو بؤر التوتر حول العالم.
الاستفادة الروسية
من التجربة السورية
«لإرغام خصومك على تنفيذ برامجك، ما عليك سوى البدء فيها»، يبدو أنها القاعدة التي باستطاعتها أن تلخص الاستراتيجية الروسية المعتمدة في حل الأزمات العالمية، وفتائل التفجير التي زرعها الغرب، في ظل غياب توافق دولي على حلّ الأزمات الإنسانية، بسبب قوى الرفض في الغرب، وغياب الرغبة، واستشراء التقاعس، والمحاولات المحمومة للاستفادة من قوى الإرهاب والفاشية الجديدة لتنفيذ الأجندة المعتمدة غربياً.
في ليبيا، شرعت روسيا بشكلٍ نشطٍ، الدخول على خط الأحداث والتأثير، فزيارة حفتر إلى موسكو، ومن بعدها لقاء السفير الروسي بحكومة فايز السراج في طرابلس، وسفر رئيس وزراء «المؤتمر الوطني» إلى روسيا، هي جميعها مؤشرات على استعداد روسي مبدئي للدخول بفعالية على خط حل الأزمة الليبية، والتي كان من الواضح سابقاً أن سيناريوهات «الحل» المطروحة، تدور جميعها في فلك الأجندات الأوروبية والأمريكية، في ظل ممانعة غير متكافئة، من قبل دول الجوار الليبي، التي لم تكن قادرة على وضع حد للتدخلات الغربية في ليبيا.
ما يهم روسيا في المطاف الأول، هو: منع السيناريو الغربي- تحويل ليبيا إلى قاعدة انطلاق للتنظيمات الفاشية الجديدة، نحو بؤر التوتر- من التحول إلى «أمر واقع» لا يمكن التعامل معه. وهذا ما يبرر السعي الروسي لإعادة الاستقرار إلى ليبيا، من خلال تعزيز دور الجيش الليبي، ووضع حد لظاهرة الميليشيات المسلحة المدعومة غربياً وعربياً.
على أرضية الفشل الغربي
جاءت الإشارات الروسية، بعد انهيار واضح لاتفاق الصخيرات، ولحكومة «الوفاق الوطني» التي لم تلق الدعم الدولي الغربي على أقل تقدير، لمسك زمام الأمور، وهذا مفهوم تماماً بالنظر إلى المصلحة الغربية في إرساء حكومة لا تحكم في ليبيا، من شأنها أن تسمح بتمدد الإرهاب، وتؤمن استمرارية نمو وتمدد التنظيمات الإرهابية المسلحة. وفي الواقع، عمل الغرب على تعقيد المشهد السياسي إلى أبعد حد ممكن، فـ«المؤتمر الوطني» الذي يحكم طرابلس- وهو غير معترف به دولياً- يُعرقل استلام حكومة «الوفاق الوطني» للسلطة من خلال المليشيات التابعة له، وهي المليشيات التي أنشأها الغرب للإطاحة بالقذافي، وتدمير الدولة الليبية، والتي يمكن القول: إنها ترفض تسليم السلطة بضغط أمريكي، وبدورها، فإن حكومة «الوفاق الوطني» الناتجة عن اتفاق الصخيرات لم تكسب ثقة البرلمان المنتخب في طبرق، والذي يحظى بالاعتراف الدولي.
إذاً، نحن أمام مشهد سياسي معقد، تأكل فيه القوى السياسية بعضها، وتتنازع على حكم أراضٍ يقضمها الإرهاب يومياً. وعلى هذه الأرضية، يمكن القول: إن مسألة مكافحة الإرهاب، في الوقت الحالي، تتخذ طابعاً حمائياً للدولة الليبية، ومنعها من التقسيم الذي سيصبح ممكناً بسهولة، فيما لو استمرت الحال كما هي عليه اليوم.
من جهة أخرى، فإن المشكلة العميقة لاتفاق الصخيرات، تكمن في : أنه لم يحمل برنامجاً للقضاء على الإرهاب، وإنهاء الحالة الانقسامية في البلاد، بل هو توليفة من التوزيع القبائلي والمناطقي للحكم في ليبيا، وهو يأتي- إن «أحسنا النية»- في إطار فهم الغرب لدول المنطقة على أساس «تخلف مكوناتها وسيادتها».
ما الجديد لدى روسيا؟
في تعاطيها مع الأزمات السياسية الجارية، في عدد من بؤر التوتر العالمية، تبقى روسيا على قاعدة احترام القوانين الدولية. وعلى هذه الأرضية، تحرص روسيا على التعاطي مع تلك القوى السياسية المعترف بها دولياً في ليبيا، بغض النظر عن الأشخاص والأسماء، وخلفياتهم السابقة المعروفة. وبرلمان طبرق والجيش الليبي، بقيادة حفتر، هو المعترف به دولياً في الحالة الليبية. وعلى أرض الواقع، هو من يخوض معارك ضد التنظيمات الإرهابية، وهو من يحتاج إلى الدعم العسكري، ومن يُعَوّل عليه من خلال نظرة واقعية لاستعادة جهاز الدولة الليبي.
الدول المسؤولة عمّا جرى في ليبيا، تخاف من الحضور الروسي في الملف، أكثر من خوفها من التنظيمات الإرهابية، ومن مافيات السلاح، وتهريب البشر، وهو ما جعلها تسارع في عملياتها العسكرية، داخل الأراضي الليبية. في جوٍ مشابهٍ لحالة «النشاط الأمريكي» التي جرت بُعَيد الدخول العسكري الروسي على خط محاربة الإرهاب في كل من الأراضي السورية والعراقية.
سيدفع النشاط الروسي في ليبيا الدول الغربية لإعادة الحسابات هناك، وهذا سيجرها إلى الاضطرار لتقديم «تنازلات» قاسية عليها، ومفيدة للشعب الليبي التَّواق لاستعادة دولته، فبعض القوى الغربية تريد تأطير ما يجري في ليبيا، لا حَلّه. غير أنه من الممكن القول: إن المشهد قد شرع يتغير لغير المصلحة الغربية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 794