الليبيون أمام فرصة إحياء كيان الدولة
كان التدخل العسكري المباشر في ليبيا، وتدمير جهاز الدولة الليبي عن بكرة أبيه- تحت مسمى «منطقة حظر الطيران» فوق ليبيا التي وافق عليها مجلس الأمن في17/آذار 2011- هو السبب الرئيسي فيما وصلت إليه البلاد حتى الآن، من اضطرابات سياسية وعسكرية، وتمدد للإرهاب على الأراضي الليبية، لكن عوامل عدة قد وقفت في وجه الإنهاء على ليبيا كدولة موحدة بشكل كامل، كهدف أمريكي عنوانه: ليبيا نقطة توتر على الحدود المصرية- الجزائرية، وخزان دائم لتصدير الإرهاب..
يتعلق جزء مهم من هذه العوامل المعيقة للهدف الأمريكي باستفاقة دول الجوار الليبي، على خطر امتداد التوتر من ليبيا عبر حدودها، والمقصود هنا مصر والجزائر على وجه التحديد، بالإضافة إلى حسابات الدول الأوروبية المستثمرة في ثروات ليبيا من نفط وغاز، ودخول روسيا بشكل فاعل على خط التطورات في البلاد..
صراع طرابلس- طبرق
26 مليار دولار هي موازنة العام 2017، لـ6 ملايين نسمة في ليبيا، وأغلب هذه الميزانية سيخصص للرواتب الحكومية، ودعم المحروقات والمواد الغذائية للمواطنين، بحسب تصريحات «حكومة الوفاق الوطني»، هذه إشارة إلى الكم الهائل لمقدرات ليبيا الاقتصادية، حتى في ظل التوترات السياسية والعسكرية، وهي مرجحة للزيادة في حال انخفاض هذه التوترات، وبالتالي، فإن القوى السياسية الليبية المتنازعة بين شرقها وغربها- بين طبرق وطرابلس، يأمل كل منها في حيازة أكبر قدر من النفوذ السياسي يترجم لاحقاً بالمعنى الاقتصادي، وهذا هو أحد أوجه الصراع الدائر في البلاد.
لكن عدم اعتراف مجلس النواب في طبرق، بحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج في طرابلس، والخلاف مؤخراً حول شرعية المجلس الرئاسي، المنبثق عن اتفاق الصخيرات، وعدم إيجاد صيغة مشتركة لتوحيد القوات العسكرية بتجمعاتها الكبيرة في طبرق شرقاً ومصراته غرباً، هذه الخلافات وغيرها، لا يمكن ردها فقط لأسباب داخلية بحتة، بالنظر إلى أن تفكك الدولة الليبية قد سمح موضوعياً بتدخلات خارجية مؤثرة بقوة، دعمت أطرافاً بعينها على حساب أطراف أخرى، وهو ما كرس الاستعصاء السياسي الحالي وعززه.
حسابات الجوار الليبي
التدخلات الخارجية هنا، معقدة، باختلاف مصالح كل طرف معني بالوضع الليبي، فأوروبا يعنيها من الملف الليبي بالمقام الأول، تركيبة سياسية محددة، تضمن لها استثماراتها الحالية وتعززها في المستقبل، وبدرجة أقل ضبط مسألة الهجرة غير الشرعية عبر السواحل الليبية، بينما تبتغي مصر والجزائر من مواقفها اتجاه ليبيا ما يخص أمنها القومي، وعدم نفاذ التوتر عبر حدودها، وتؤيد روسيا توجهات البلدين إلى حد كبير، وتنسق معهما في هذا الخصوص، وهذه المصالح هي خطوط عامة تتقاطع وتفترق إذا أردنا الدخول في تفاصيل الصراع السياسي والعسكري.
لكن المؤكد، في ظل هذه الاختلافات، هو: أن القاسم المشترك بين رؤى هذه الدول على اختلاف مصالحها، هو الميل نحو استقرار ليبيا عسكرياً وأمنياً بالدرجة الأولى، آخذين بعين الاعتبار تحول ليببا إلى قبلة للمنظمات الإرهابية من أنحاء العالم كلها، حيث يتم استقدامهم وتوريدهم من وإلى سورية والعراق بحسب الحاجة، بالتالي، فإن الهدف الأمريكي بتسعير الأوضاع في شمال أفريقيا على العموم، يفقد بريقه بشكل تدريجي، وما يعززه هو تراجع الولايات المتحدة، في قدرتها على التجييش القسري لدول غربية، أو خليجية لتنفيذ أهدافها في لبيبا، أي أن مصالح الدول المعنية بالوضع الليبي وتحديداً أوروبا، قد وصلت إلى مفترق طرق في البحث عن مصالحها مع الطرف الأمريكي.
روسيا في الواجهة السياسية
لم يكن اتفاق الصخيرات في نهاية العام 2015، والذي أسس لحكومة الوفاق الوطني، ومجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، كافياً لإتمام التوافق بين الليبيين، وهو ما يعني أنه لم يعكس تماماً موازين القوى في الداخل الليبي، وبالتالي، استمر الصراع السياسي، وحاول كل طرف إثبات وزنه السياسي، بما يمكن تحقيقه على الأرض، وتحديداً فيما يخص المناطق التي سيطرت عليها التنظيمات المتشددة، فاتجهت القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني إلى مدينة سرت، وأنهت تواجد تنظيم «داعش» هناك، بينما توجهت القوات الموالية لمجس النواب في طبرق بقيادة اللواء، خليفة حفتر، نحو بنغازي واستطاعت تحريرها أيضاً.
وهو ما أرسى إلى حد كبير، توازناً مختلفاً نسبياً، عما كان عليه في نهاية العام 2015، ما دفع القوى المصرة على إحياء كيان الدولة الليبية، إلى تحريك الحالة السياسية باتجاه توافق جديد بين الليبيين.
في هذا السياق جاءت التحركات المصرية المكثفة، في كانون أول الماضي، باجتماع 45 شخصية ليبية، تدارست على مدار يومين جملة الأوضاع في ليبيا، بمشاركة مصرية رفيعة المستوى، تمثلت بحضور رئيس الأركان المصري، ووزير الخارجية، سامح شكري، حيث جرى التوافق على بيان صدر في ختام الاجتماعات، تضمن العديد من النقاط التوافقية، ومنها: التأكيد على وحدة التراب الليبي وحرمة الدم، وأن ليبيا دولة واحدة لا تقبل التقسيم.
بعدها مباشرة، شهدت العاصمة المصرية اجتماعات أخرى خلال اليومين الماضيين، برعاية ومشاركة الفريق محمود حجازي، ضمت تركيبة سياسية وإعلامية وثقافية من العناصر الموالية لنظام العقيد معمر القذافي، ومؤيدي الاحتجاجات في شباط 2011، واستهدفت التوافق على قاعدة مشتركة، لتحقيق التوافق في ليبيا بما يحقق مصالح الشعب الليبي، ويؤسس هياكل بناء الدولة.
هذه التحركات المصرية وغيرها من التحركات الجزائرية أيضاً، جاءت مدعمة بالوجود الروسي الساعي لحالة الاستقرار في ليبيا، ففي حديثه لوكالة «بلومبرغ»، أكد غينادي غاتيلوف، نائب وزير الخارجية الروسي، على عدة نقاط فيما يخص الوضع في ليبيا، فمن جهة أكد على ضرورة إشراك قائد الجيش الليبي اللواء، خليفة حفتر، في إدارة ليبيا، مشيراً إلى أن «حفتر يحارب بنشاط مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي»، بينما نعى بطريقة غير مباشرة اتفاق الصخيرات، الذي جاء به المبعوث الدولي، مارتن كوبلر، كونه لا يناسب موازين القوى في الداخل الليبي، منوهاً بأن سياسة المبعوث الدولي الداعمة لحكومة طرابلس، التي دخلت علاقتها مع حفتر في طريق مسدود تعني وجود عوائق في التسوية السياسية للأزمة في البلاد، معتبراً أن حكومة الوفاق الوطني لا تستطيع بدء العمل كما يجب، لأنها لا تسيطر إلا على جزء صغير فقط من ليبيا، وأن بلاده تقيم اتصالات مع كل الأطراف في ليبيا بما في ذلك مع رئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، ونائب رئيس الحكومة، أحمد معيتيقة.
وفي ظل هذه التحركات المصرية- الجزائرية، والروسية التي تشهد تنسيقاً دون شك، يمكن القول: أن المخاوف من تفكيك ليبيا في طريقها إلى الزوال، وأن إنتاج حكومة توافقية جديدة من شأنها بالدرجة الأولى توحيد الفصائل العسكرية المشتتة، في كيان واحد، كطريق لإحياء الدولة الليبية من جديد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 792