توازنات العالم في خدمة القضية الفلسطينية

توازنات العالم في خدمة القضية الفلسطينية

يعتبر التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم «2334»، الذي أكد عدم شرعية الاستيطان الصهيوني، بداية انعطاف نوعي في التعاطي الدولي مع المسألة الفلسطينية، أساسه تغيرات موازين القوى الدولية، وعدم اقتصارها على الطروحات الأمريكية المرتكزة بالأساس على «اتفاقية أوسلو»، وما تبعها من تنسيق أمني وغيره..

 

استنفر هذا القرار كيان الاحتلال، مع أنه  قرار «غير ملزم التنفيذ»، لكن هذا الاستنفار الصهيوني، والهجوم الدبلوماسي على عشرات الدول الصديقة، قبل العدوة بالنسبة له، مرده الخوف من وضع القضية الفلسطينية على مسار جديد مغاير لما عهده، وارتاح له في العقدين الأخيرين على أقل تقدير..

مبادرة فرنسية مشبوهة

تحضر فرنسا لإقامة مؤتمر دولي موسع تشارك فيه 70 دولة، بغية تحديد المبادئ الكبرى لتسوية «الصراع الإسرائيلي الفلسطيني» قبل الدخول في فترة انعدام يقين مطلق، بحسب ما نقلته صحيفة  «معاريف» الصهيونية عن «موظفين فرنسيين رسميين»، وأضافت مصادر الصحيفة أنه «لن تكون هناك تعهدات محددة، لكن ينبغي على الأقل، أن نحاول حفر المبادئ الأساسية في الرخام».

بغض النظر عن صحة المعلومات من عدمها،  فالمؤكد بالوقائع تؤكده صحف العدو، والفرنسيين أيضاً، فهم يعلنون صراحة المخاوف من «انعدام اليقين المطلق»، أي قدرة القوى المساندة لكيان الاحتلال في دعم خياراته وسلوكه فيما يخص القضية الفلسطينية، فحتى خيار «حل الدولتين»، الذي تتأفف منه حكومة الكيان، وتطمع في تحصيل شروط تفاوض أفضل، بات في مهب الريح، في ظل تراجع النفوذ الأمريكي وأدوات تحكمه في المنطقة، وضمناً ما يخص القضية الفلسطينية، فواشنطن لم تستطع الدفع بهذا الخيار، في أوج نفوذها في المنطقة، فما هو الحال في ظل التراجع الأمريكي اليوم؟!

على هذا الأساس يأتي المؤتمر الفرنسي، المزمع عقده في 15/كانون ثاني الحالي، بهدفين أساسيين: الأول هو: تصنيع إطار بروتوكولي دولي بعدد كبير من الدول، من شأنه إبعاد الملف عن مجلس الأمن الذي أنتج ضمن توازنات القوى الدولية الجديدة القرار 2234 كبداية، وعن أي مساعٍ خارج المنظومة التقليدية الداعمة للكيان دعماً مطلقاً، تحديداً بعد دخول روسيا على الخط بطروحات مغايرة لما هو معتاد طرحه، من قبل الأمريكيين أو الغربيين. وتثبيت حالة الانقسام الفلسطيني، بدعوة السلطة الفلسطينية فقط. أما الثاني، فهو: منع المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، وهي المسألة «المحرمة» أمريكياً، كونها تصعب طاولة المفاوضات المفروضة في حال الجلوس إليها، وبالتالي فإن تثبيت حالة الانقسام بدعوة السلطة الفلسطينية، دون غيرها وإيهامها بالقدرة على التوصل إلى اتفاق ما باسم الشعب الفلسطيني، هو إحدى المهمات التي يأمل الفرنسيون، ومن خلف الستارة الأمريكيون، الوصول إليها في المؤتمر.

روسيا بين الرمزية والجدية!

أرادت روسيا إرسال رسالة واضحة للفرنسيين، مفادها أنها موجودة وناشطة على مسار حل هذا الملف، وإصرارها على إيصال الرسالة بصوت عالٍ، كان عن طريق إقامة نشاط مماثل، متزامن مع المؤتمر الفرنسي، فأعلن معهد الاستشراق الروسي أنه سينظم أواسط الشهر الحالي، اجتماعاً لممثلين عن الفصائل الفلسطينية، لبحث سبل تجاوز الصراع الداخلي بينها وإحياء الوحدة الوطنية.

وأوضح المعهد، في 2/ كانون الثاني الحالي، أنه من المقرر أن يركز الاجتماع على حل النزاع بين الفصائل الفلسطينية. ومن المتوقع أن تلتقي الوفود المجتمعة، بوزير الخارجية الروسي ونائبه، سيرغي لافروف، وميخائيل بوغدانوف، في موسكو.

واللافت في الدعوة الروسية كان عدم اقتصارها على حركتي «فتح» و«حماس»، بل تعدتها لتصل الدعوات إلى معظم الفصائل الرئيسية، وضمناً «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، حسب ما أكده القيادي فيها، قائد الغوري، في حديثه لوكالة «نوفوستي» الروسية.

ومن المتوقع أن تتسع دائرة الدعوات، لتشمل باقي الفصائل الفلسطينية، لتثبيت نموذج جديد في التعاطي الدولي مع القضية الفلسطينية، مغاير لما تسوقه القوى الغربية في اقتصار اتصالاتها مع السلطة الفلسطينية.

استغلال مرحلة الصدمة

تعيش الدوائر السياسية في كيان الاحتلال صدمة، أساسها البرود الأمريكي في دعمه لمصالح الكيان، وهو الطريق الإجباري وليس الاختياري للأمريكيين، الذين يعانون تراجعاً حاداً في القدرة على التحكم بمجريات الأحداث على مستوى المنطقة برمتها.

في هذا السياق، يقول رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، في اجتماع سنوي مع رؤساء بعثات دبلوماسية صهيونية في أوروبا، يوم 3/ كانون الثاني الحالي: «إن علينا أن نركز جهودنا السياسية في الوقت الحالي لمنع تنظيم التصويت على قرار جديد»، في إشارة إلى قرار إدانة الاستيطان، أي أن «إسرائيل» تنتقل إلى حالة «الدفاع عن وجودها» غير الشرعي في وجه احتمال صفعات جديدة ضمن المنظمات الدولية، وهو ما يدركه العدو تماماً.

وأيضاً، أشار رئيس كيان الاحتلال، رؤوفين ريفلين، الاثنين 2/ كانون الثاني الحالي، إلى وجود «تحديات غير واضحة، تواجه «إسرائيل».. مستوى عدم اليقين هذا العام مرتفع، بشكل خاص، أكثر من أي وقت مضى هناك، فهناك رئيس جديد في الولايات المتحدة، وما زالت «إسرائيل» تجهل سياساته تجاه الشرق الأوسط.. والأجندة السياسية في أوروبا، والانتخابات في فرنسا وألمانيا، وغيرها الكثير، ترفع مستوى عدم اليقين، ونحن بحاجة إلى أن نكون جاهزين».

هذه الحالة، التي تصيب كيان الاحتلال، نتيجة الفراغ الأمريكي سريع التشكل نسبياً في المنطقة، إضافة إلى الحالة الدولية المتغيرة إزاء القضية الفلسطينية، والذي سيشهد دون أدنى شك تطورات جديدة لصالح الشعب الفلسطيني، هذا كله يتيح فرصة تاريخية أمام القوى الوطنية الفلسطينية، على اختلاف انتماءاتها السياسية، لتوحيد الصف حول برنامج وطني بسقوف ضامنة لحقوق الشعب الفلسطيني، وأي توجه غير هذا سيسوق أصحابه للمساءلة أمام الجماهير التي قدمت ما قدمته لهذه القضية، ولن تتنازل عن حقوقها، وليس لدى الفلسطينيين أسهل من تغيير الولاءات في حال النقمة على المتخاذلين، عندما تنضج الظروف.

 

ما لدى الروس وما لدى الفرنسيين

 

يحمل النشاط الروسي مؤخراً، حول المسألة الفلسطينية، فهماً ملموساً لواقع التوازنات الدولية، وتغير ذلك الإطار الذي بني على أساسه كيان الاحتلال، ونال الرعاية الأمريكية في مرحلة لاحقة. ويحمل أيضاً فهماً لواقع الانقسامات الفلسطينية، التي أصبحت عثرة، دون تحقيق السقوف التي كان من الممكن تحقيقها سابقاً.. هذا ما يفسر إلى حد كبير منطق النشاط الروسي مؤخراً في هذا الملف. أما التحركات الفرنسية، فتبدو متجهة اليوم نحو تثبيت ما لا يمكن تحقيقه لاحقاً لمصلحة كيان الاحتلال، من خلال تعويم السلطة الفلسطينية المتداعية في الداخل أصلاً كـ«مواجه» وحيد في مقابل كيان الاحتلال.

معلومات إضافية

العدد رقم:
792