غزة… وعبقرية استدخال الهزائم

في حدود ما يعلم الجميع فإن هدوءاً ما كان بين غزة المحتلة وبين الكيان في وضع هو بين استراحة المحارب وتكتيك العدو. هدوء ترافق مع هدايا لا يرقى لتصورها خيال تقدمها الأنظمة العربية ومثقفون عرب، لمصير الكيان ومستقبله في هذه الأيام حيث الجامعة العربية تطوف العالم على طائرات خاصة لتجنيده لاحتلال سورية بعد احتلال ليبيا، وخصي الحراك في اليمن وغير هذه كثير. هدوء ترافق مع وصول معظم قيادات الفلسطينيين تترى في حجيج إلى الدوحة بما هي «كعبة» التطبيع. فما الذي يريده الكيان أكثر من بلوغ هذا الدركْ؟

لكن حسابات الكيان أبعد من هذا بكثير، وليس ذلك دليل عبقرية فيه بل نتاج عبقرية استدخال الهزيمة في الواقع العربي. إن عبقرية إتقان الهزائم والبحث الجاد عن تجسدها هي أساس انتصار الآخر حتى لو كان أضعف وأوهن من بيت العنكبوت. في هكذا علاقة أو تناظر أو تناقض أيَّاً كانت سياسة العدو، فلا بد أنه يكسب! وقد يكون عدوانه هذا أكثر عدواناته تصويباً لأنه ضربة انشطارية متسلسلة تصل وتُطال الكثيرين في الوقت نفسه.

نعم تطال الكثيرين، وعليه، لماذا لا نعترف أننا كفلسطينيين وعرب متورطين مع هذا العدو في المسألة المركزية وهي الموقف من وجوده؟ أقصد بهذا القول وضع الأمور في نصابها الصحيح والذي يتحدى كل ذي بصر وبصيرة أو حتى من لديه إحداهما فقط. لا بل إن بعضنا متعاقد معه، نعم حتى متعاقد.

ألسنا مختلفين على مبدأ وجود كيان استعماري استيطاني منذ عام 1948 وحتى اليوم، فما الذي يمنع هذا الكيان من التعامل مع كرامتنا بالأحذية، بل ما الذي يمنع حتى أصدقائنا من ذلك؟ قد يكون هذا الحديث وقحاً، ولكنه الوقاحة الأقدر على كشف الحقيقة. فماذا يقول العالم والتاريخ في قوى وأنظمة وطبقات ومثقفين يعترفون باغتصاب وطن ويهدونه للغاصب؟ وماذا حين يفعل ذلك المشردون من وطنهم ويفاخرون!

لمن الرسالة أولاً؟

رسالة نتنياهو أولاً إلى الموفد الأردني، الذي لم يصل عمان بعد، وكان قد أتى ليتحاور مع قيادة الحكم الذاتي في إطلاق رصاصة التفاوض على رأس الوطن! لا يعرف أحد ماذا دار في محادثات حكام الضفتين! ولا يحق لأحد من الشعب المجزأ إلى جزءين أن يعرف لأنها اسرار يجب أن لا تعرفها العامة لأن العامة مشكوك في وطنيتها فالمواطن موضع شك كبير دوماً. ولكن ما هو معروف أن ابو مازن أرسل إلى نتنياهو رسالة تطمينات لا رسالة مفاوضات. رسالة جوهرها تأكيد الاعتراف بالكيان. هذا يمين القسم، وبعده تأتي المتفرقات والتي نوجزها كما يلي: تنطلق رسالة ابو مازن من مبدأ المقايضة (أرض بأرض) مما يعني إقرار الاعتراف بالكيان وكأنه على أرضه. إنه «مبدأ غريب» مقايضة أرض فلسطينية بأرض فلسطينية وهو أمر مرفوض من حيث المبدأ، لأنه تمكين المغتصِب من اقتطاع أرض ومن ثم مبادلتها مع أصحاب الأرض أنفسهم. وإذا كنا سنناقش المقايضة، فإن حصولها يعني بوضوح قبول وجود مدن استيطانية في ما يسمى الدولة اي في قلب هذه الدولة وهذا لا يعني وجود سيادة. كما ان ما يُبادل لسلطة الحكم الذاتي سيكون تعديلات على حدود 1967 وليس داخل الكيان، مقابل المستوطنات التي ستبقى في قلب «دولة أوسلو-ستان»! فمن المعروف أن مواقع هذه المدن لن تحدد بقرار فلسطيني بل بقرار اسرائيلي سيكون جوهره استراتيجياً. وهذا يطرح مسألة الأرض، ناهيك عن الوطن، فأهمية الأرض في علاقات الدول (في حالة كون كل دولة طبيعية) ليست المساحة والقيمة بقدر ما هو الموقع.

وتتضمن رسالة ابو مازن إلغاء القرارات الإسرائيلية الصادرة من عام 2000، مما يعني الإبقاء على، بل وإعطاء شرعية للقرارات التي قبل عام 2000 وأهمها الإقرار ب «شرعية» الاحتلال 1948! وتتضمن التزام ابو مازن ب 242 و338 مما يعني بوضوح أن السلطة تنطلق في الأمر من الاعتراف بالكيان بدءاً من أراضي 1948، وهذا يعني شطب حق العودة لأن الإقرار بأرض لدولة يوفر لتلك الدولة حق رفض إدخال من ليس من رعاياها حتى لو زائراً.

أما حديث رسالة ابو مازن عن القدس كأرض محتلة فهي كلمة حق يراد به باطل بمعنى التغاضي عن باقي الأرض المحتلة عبر التركيز على قداسة القدس، وفي النهاية فإن مكان العبادة لا يغني عن الوطن. ألم يقل عمر بن الخطاب: «إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة». أما حديثه عن عدم بقاء اي جندي صهيوني في مناطق الحكم الذاتي فليس له معنىً طالما ستبقى هناك مستوطنات في قلب الضفة؟ من سيحميها بمفهوم الكيان؟ أما وجود القوات الدولية فيعني عدم أحقية الدولة الجديدة بحمل السلاح مما يضعها تحت حماية القوات الدولية، وهذا تكريس لعدم السيادة وهو ما يؤكد أن ما سيقدم ليس دولة بل محمية.

تتضمن رسالة ابو مازن شروط إنهاء الانقسام، وهي شروط اسرائيلية تؤكد التسوية وفي حالة قبول حماس بها فذلك يعني انحيازها للتسوية. هذا الشرط هو تساوق مع رؤية الدول الغربية للتسوية أي حماية الكيان وهذا بالطبع جوهر التسوية. وربما أخيراً فإن رسالة ابو مازن لا تذكر البعد العربي، بمعنى أنها تفك العلاقة حتى بالعمق العربي الرسمي على تهافته!

وطالما وصلنا إلى العرب، فإن رسالة نتنياهو الانشطارية تعم الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، فهي تقول للمتعاقدين: عليكم أن تنخوا أكثر. أليس هذا معنى رسالة نتنياهو لأنظمة الخليج التي «تناضل» لتخريب الأقطار العربية ذات التوجه القومي؟ وهو نفسه معنى رسالته لجامعة الدول العربية التي يطالبها بإعلان تدخل سافر في سورية، بل إن هذا معنى رسالة نتنياهو لكل العرب والمسلمين الذين يتذابحون على أجندات طائفية ومذهبية وحتى فردية؟

ماذا يمكن للكيان أن يرسل، غير رسالته إلى غزة، طالما أمامه جمهور يذبح الرجل أخاه لأنه لا يصلي، وتتم فتاوى لها أول بلا آخر عن شعر المرأة ووجهها ولباسها وموعد نومها وتقليم أظافرها…الخ انشغال بالمرأة لا بالوطن ولا بالتبعية ولا بالفقر ولا بنزيف الثروة ولا باقطار مغتصبة؟ ماذا يرسل نتنياهو للسعودية التي تحتل البحرين في حين كل أهلها يطالبون برحيل ذلك المدعو «صاحب العظمة» ماذا تعني لتركيا التي ترسل زخات من الإرهابيين لتخريب سورية باسم الإسلام وتمولهم قطر باسم الإسلام كذلك ويقرأ عليهم القرضاوي تعاويذ تقي من الرصاص القومي؟ ماذا يمكن ان يفعل الكيان غير هذا وهو يعلم أن الأفغاني الذي يُعتقل في سورية يعتقد أنه «يُدافع» عن غزة! ألا يكفي هذا الجهل بأن يقود إلى احتقار أمم بأكملها!

أليست رسالة نتنياهو هذه في محلها تماماً؟ طالما نحن أمام مشايخ ومثقفين يستدعون الغرب لاحتلال سورية؟ وهل من يستجدي احتلال سورية فيه قلق على غزة؟ معاذ الله.

من لديه عقل عليه أن لا يغضب. هذه هي الحقيقة. إن أمة فيها أعداد غفيرة ممن يستدعون الاستعمار لوطنهم لا تستحق سوى هكذا رسائل من الكيان. ومن ينكر فهو كاذب علانية أو على درجة من الجهل قاتلة. فالاستعمار والاحتلال هو نفسه سواء طلبتموه لسورية أو سمعتم عنه في فلسطين؟

نعم هي رسالة انشطارية تصل إلى الإدارة الأميركية لتقول لها، طالما تقيدوننا تجاه إيران، فلا بد لنا من التدريب على دماء الفلسطينيين. وقد تكون هذه توصية أوباما أو تعويضه لنتنياهو بدل الضربة المباشرة لإيران، هذا إذا كان ما يُرمى به للإعلام هو حقيقة الاتفاقات والمخططات! وهي رسالة تدريب ورفع معنويات لجيش دولة تهدد إيران ولا تفعل، فلا بد من فعل عدواني ما لرفع معنويات جيش كان يتنزه حين يعتدي.

وعلى اية حال، أياً كانت الرسالة، مهما كانت انشطاراتها، فإن العدو رغم مأزقه إلا أنه يرى أمامه شيعا وأحزاباً ودولا من التفاهة بمكان مما يدفعه ليرى في نفسه شيئا عبقرياً ما. وكيف لا؟

حين يرى برجوازيات بتجارها وكمبرادورها تتوق للمتاجرة معه حين يرى من يحكم مكة يوقف مقاطعة الكيان!

حين تتحرك مخابراته ودبلوماسيوه في قطر باسهل من التحرك في تل أبيب، حين يرى قيادات الدين السياسي الإسلامي تتهرب من مجرد ذكر اتفاقات كامب ديفيد، وتستقبل «باسم الثورة» عُتاة البيت الأبيض.

 

وحين يرى مثقفين من المحيط إلى الخليج يصطفون لتقاضي ثمن كتاباتهم المسمومة. فمن يبيع قلمه يبيع وطنه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
544