عودة لفلسطين
كالعادة، لقاءات وحوارات واتفــــاقات بين فتـــح وحمـــاس، ثم العودة إلى نقطة الصفر من جديد، وبلا فائدة ترتجى لقضية الشعب الفلسطيني، ولا نهاية لعذابه ومعاناته الفريدة.
حكومتان في غزة ورام الله، ولا قدرة حتى على تشكيل حكومة واحدة، وقد وافق خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس على تشكيل حكومة يترأسها عباس، وتعد لإنتخابات برلمان ورئيس جديد، ولم يكد حبر الاتفاق الأول يجــف، حتى بدا أن توقيع مشعل عرضة للمحو، فقد اعترض تيار آخر من قيادات حماس، وبدأت مباحثات لاحقة في القاهرة نقضا للاتفاق الرئاسي فى الدوحة، وعاد الكل أدراجهم إلى فصائلهم، ودون حصاد سوى مصافحة بدت متربصة بين عباس واسماعيل هنية رئيس حكومة غزة .
وكلما جرى تقدم ما في ملف المصالحة، بدا أن المصارحة غائبة، وأن «الفيتو» الغامض جاهز للقضاء على أي تقدم، سوى هدنة موقوتة بين عباس وحماس، وكأن الأمر استقر على وجود دويلتين فلسطينيتين، أو مشروعين لدويلتين لا تسمح (إسرائيل) لإحداهما بالاقتراب من الأخرى، وتستعين بالضغط الأمريكي لردع عباس عن فكرة المصالحة، فيما يتكفل صقور حماس بالباقي، ويحبطون سلوك خالد مشعل، ورغبته فى إبداء مرونة وطنية تستفيد من التغيرات المتلاحقة في المنطقة بأثر من ثورات وانتفاضات شعوبها.
والمحصلة أنه جرى ابتذال القضـــية الفلسطـــينية، واختصارها في مجرد رغبــــة لتوزيع السلطة، والتقاتل عليها، واعتبار قضية تشكيل حكومة واحدة غايــــة المنى، وأن الاتفــــاق عليــــها يكفـــل الوحدة الوطنية الفلسطينية، وقد يكون تشكيل حكومة واحدة بالفعل واجبا ضرورياً، وسواء كانت برئاسة عباس أو أي شخص آخر، وسواء كانت حكومة فصائل أو حكومة تكنوقراط، لكن الحكــــومة الواحدة لا تعــــني بالضــــرورة رد الاعتبار للقضـــية الفلسطينيـــة، اللهـــــم إلا إذا كان الأمر مرتبطاً بخطة ما لتحرير الأرض المحتلة، وهو ما لا يبدو موضع اتفاق بين حماس وعباس، لا في الحال ولا في الاستقبال، ولا حتى مع إجراء انتخابات يبدو الطريق إليها ملغوماً، فلم تعد من فــــروق ظاهرة وجوهريــة بين مشروعي حماس وعباس، فكلاهما يتفاوض على طريقته، وبهدف واحد هو تثبيت الوضع لا تغييره.
وقد كانت حماس إلى قريب تمتاز بمشروع مقاومة يفصلها عن مشروع مساومة يتبناه عباس، ثم لم تعد تلحظ الفرق، اللهم إلا في لهـــجة بيانات تصـــدر، وتؤكد على تطليق فكــرة المقاومة من جـــانب عبــاس، وعلى الانتساب النظري إليها من جانب حــــماس، ودون سعى عــملي إلى ترجمتها على الأرض، سواء في غزة أو في القدس أو في الضفة الغربية.
الأسوأ، أنه جرى اعتياد المتاهة، وغابت البوصلة الأصلية في اتجاه تحرير الأرض، ولم يعد بارزا في الخبر الفلسطيني اليومي سوى صمود وإضرابات الأسرى والأسيرات، أو الدفاع الأعزل عن حرم المسجد الأقصى الشريف، ثم لاشــــيء سوى ما تفعله (إسرائيل) لا الفلسطينيون، فـ(إسرائيل) هي التي تقصف غزة، و (إسرائيل) هي التي تلتهم ما تبقى من القدس، و (إسرائيل) هي التي تضاعف أعداد المستوطنات والمستوطنين في الضفة الغربية، و (إسرائيل) هي التي تتسلى باعتقال قادة برلمانيين أو مناضلين، ودون أن يدوسوا لها على طرف، فالهدف هو التنكيل لمجرد التنكيل، وفرض مشاعر الاستسلام واليأس والرضا بالمقسوم على الفلسطينيين.
وبوضوح، فلم يعد من قيادة ظاهرة لمشروع المقاومة الفلسطينية، والفصائل مشغولة بالغنائم لا المغارم، واختصار قضية الشعب الفلسطيني إلى مجرد قضية إنسانية لا قضية وطنية، والتفرغ لجلب معونات مالية أوروبية وأمريكية من جانب عباس، أو إيرانية وعربية من جانب حماس، وخفض سقف السياسة إلى أدنى حد، وإغلاق ملف السلاح المقاوم، وقصر واجب السلاح على التشريفات، أو مطاردة الفتحاويين للحمساويين، أو العكس، وبحسب جغرافيات السيطرة، في حين تبقى قضية المقاومة المسلحة يتيمة، ولا تعود تسمع شيئا عن عملياتها، مع أن المقاومة المسلحة هي الفرض والسنة، ولا يوجد احتلال إحلالي زال فى التاريخ بغير مقاومة السلاح، ولا استيطان جرى تفكيكه بغير مقاومة السلاح، وهو ما حدث من قبل في غــزة، فقد كان انسحاب (إسرائيل) من غزة، وتفكيك المستوطنات وإجلاء سبعة آلاف مستوطن (إسرائيلي)، كان ذلك كله ثمرة عظيمة للانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي امتزجت فيها المقاومة المسلحة بصنوف المقاومة الجماهيرية.
وقد نفهم أن يجري توحيد العمل السياسي لخدمة مقاومة السلاح، وأن تجري عملية إعادة بناء منظمة التحرير لخدمة الهدف نفسه، لكن العملية تحولت فيما يبـــدو إلى اقتناص مقاعد، وإلى بناء هيئات صـــورية بلا أثر كفاحـــي ملموس، وهو ما يضعف الاهتمـــام بقصص المصالحات، والتي لا تحـــرز نجاحا، وتدور فى فراغ موحش لا تملؤه كلمات صارت بلا معـــنى، ولا تنطوي سوى على مطامع ومطامـــح لأشخاص وحركات، وهو ما قد يصح أن يتوقف، فالبــــؤس المفرق بين غـــزة والضفة لن تتغير طبيعته لو صار بؤسا مجمعا، وقد لايكون الكلام مفيدا مع الرئيس عباس.
فهو يبدو راضياً بوظيفة الرئيس بلا رئاسة، ومغتبطاً بقصة الدولة التي تشبه قبضة الهواء، وعقيدة الرجل المعلنة أنه لاجدوى من مقاومة ولا انتفاضة جماهيرية، وهي عقيدة لانظنها تلزم كوادر « فتح » الأكثر صلابة، بينما تبدو «حماس» في حال أفضل نسبيا، وإن أنهكتها مساومات السياسة، وتلك حالة قد يصح معها أن نخاطب معها ضمائر الحمساويين والفتحاويين كفلسطينيين مناضلين، وليس كعناصر مأمورة وتابعة لهوى قياداتها وتقلباتهم، فالمطلوب فيما نظن إعادة بناء فكرة المقاومة العابرة للفصائل، وتحرير فكرة المقاومة من التعطيل بحجة التشكيل، ومد الجسور مع مناضلي الفصائل الأخرى خاصة في «الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية»، وإقامة الوحدة في الميدان لا انتظار انتخابات البرلمان، ووضع هدف محدد للكفاح المسلح في هذه المرحلة، وهو استكمال تحرير غزة وتحرير الضفة والقدس، وبعمليات منسقة على الأرض المستهدف تحريرها مرحلياً، وليس فى خارجها، وقد يقال إن ذلك عسير جدا في الظروف الراهنة، وإن القيادات تتحكم فى سلوك وحياة المناضلين والفدائيـــين، وهذا صحيح إلى حد كبير للأسف، لكنه قابل للتفكــــيك مع وجود بدائل لصيقة متاحة للشعب الفلسطيني بصفة عامة، وللشباب الفلسطيني بالذات، وفي صورة الدعوة لتحركات جماهيرية سلمية حاشدة، وعلى نمط الثورات العربية المعاصرة، وتحت شعار بلا بديل ولا شريك، يرد الاعتبار لجوهر القضية الفلسطنية، ويؤكد أن «الشعب يريد إنهاء الاحتلال»، ولا يقولنّ أحد أن ذلك هو الآخر غير ممكن، فالشعب الفلسطيني العظيم ليس أقل تصميما وكفاحية من شعوب أمته التي ثارت، واجتماعه المتصل فى الساحات يحول قضيته إلى «مخيم ثورة» لا مخيم لاجئين.
* كاتب مصري
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 543