الفصائل تقاوم الضجر
استعار أحد الأصدقاء شعار قناة ميلودي الشهير، وكتب من القاهرة «الفصائل الفلسطينية تتحدى الملل». أمكنني على الفور تخيل «المشهد الفندقي» الذي أوحى للصديق بهذه الاستعارة، فقد عاينته في فترة سابقة، حيث ينتشر أعضاء مكاتب سياسية، وقياديون كبار، وكوادر في مجموعات تتبادل السأم والشكوى، حتى لتتساءل أحيانا عن سبب وجودها هنا، بينما يدور «الطبخ» في مكان آخر، أو في غرف مغلقة بين بعض من ممثلي ما بات يعرف بالفصيلين الكبيرين، أي فتح وحماس. ثم يدعى البعض إلى ما يسمى جلسات عامة، لأخذ موافقة الأخرى: مباركة ما جرى الاتفاق أو التوافق عليه بين ممثلي فتح وحماس. وأحيانا يعلم الجالسون في البهو بما جرى من خلال وسائل الإعلام. ويحدث أن تجد قياديا فلسطينيا، لا يقل لقبه عن ست أو سبع كلمات مختليا بصحافي أو صحافية من أصحاب الحظوة، محاولا أن يعرف منه حقيقة ما يجري. فالفصيلان لا يجدان أي ضرورة، أو أهمية لإشراك الحلفاء في التداول، ناهيك عن أن يكونوا جزءا من اتخاذ القرار، بشأن أي ملف مهما بلغ حجمه.
وسوف يمثل اللقاء في آونة تناول الوجبات الثلاث بانتظام، فرصة لتبادل بعض المعلومات أو التسريبات. وهي في كل حال أقرب لتداول الإشاعات منها إلى الحقائق الموثقة، أو الدقيقة. ثم ينفض السامر بانتظار جولة أخرى.
قد يبدو المشهد أقرب إلى الكوميديا، لكنه في الحقيقة لا يبتعد عن الواقع كثيرا. لا بل إن الواقع أكثر سوءا من تصويره بهذا القدر من الكلمات. والأطرف أنك لا تستطيع مثلا أن تعرف إلام انتهت اللقاءات. أو ما هي الخطوات التي جرى بالفعل إنجازها. وتلك التي ما تزال مدار بحث.
جدول الأعمال خارج البحث
في ما نعرف، فإن اجتماعات القاهرة كانت تهدف إلى البحث في موضوعين أساسيين، هما: تشكيل الحكومة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، وخطوات إعادة بناء(أو تفعيل) منظمة التحرير(بالمناسبة ليس معروفا على وجه الدقة ما إذا كان البحث في الإطار القيادي المؤقت، يدور حول إعادة بناء المنظمة، أم حول تفعيل دور وأداء المنظمة). وغياب المعرفة هذا هو نوع من الغموض المقصود الذي يترك كل شيء معلقاً، وغير ذي فاعلية واقعية.
في كل حال، انتهت الاجتماعات دون الإعلان عن تشكيل الحكومة. ولدينا هنا عدة روايات عن أسباب التأجيل أو عدم الاتفاق. بداية استغلت فتح خلافات حماس حول إعلان الدوحة، واعتبرت أن هذه الخلافات تؤجل تشكيل الحكومة. وهي أي فتح، بانتظار حلها، لتصبح الحكومة ناجزة. ثم تردد أن حماس طالبت بوزارات سيادية (العدل والداخلية والمالية). (وبالمناسبة فكلمة سيادية حين يتعلق الأمر بالسلطة الفلسطينية لا تثير أكثر من ضحك تدفع إليه المرارة قبل أي شيء آخر). لكن متحدثين من حماس، نفوا وجود خلافات داخل حركتهم. وأدانوا ما اعتبروه محاولات توظيف رخيص من قيادات في فتح. وكدنا نعود إلى زمن التراشق التي أنتج نجوما فلسطينيين في الردح الإعلامي على الفضائيات. ثم عاد هؤلاء وقالوا بشأن الوزارات المحددة: إن هذا غير صحيح. وليست لديهم اشتراطات، بشأن أي من الوزارات. والمشكلة هي عند فتح. ثم أثيرت مشكلة القسم الذي سوف يؤديه صاحب المهام المتعددة: محمود عباس أمام التشريعي الفلسطيني. وبالطبع فإن الأمر يبدو محرجا لسيادته، ولكننا لم نعرف إن كان رفض هذا الأمر كليا أم لا.
ثم خرج علينا من يقول: لا توجد خلافات. ولكن تم اقتراح تأجيل البحث في تشكيل الحكومة. والمشكلة أن أحدا لم يعلم بهذا البحث. فحين سألت الفصائل عن موضوع الحكومة، طلب منها أن تنسى القصة، فالموضوع هو بين «الكبيرين» فقط، علما أن الكلام دار سابقاً عن حكومة ستشكل بالتشاور مع الفصائل في القاهرة، على أرضية إعلان الدوحة. وهكذا دخلنا شوارع ضبابية، فلم نعد نعرف إن كانت الحكومة قد شكلت، أم هي في طور التشكل، أم أن هناك خلافات حولها؟ المحصلة الوحيدة هي التأجيل إلى موعد لاحق لم يحدد بعد. وهاهي فرصة أخرى تتاح لمقاومة الضجر بالتلهي ببند الحكومة.
المنظمة وحفلة سباب
ومن الحكومة إلى الإطار القيادي. جاءت الفرصة ليشعر الجميع بأن لهم دورا يلعبونه. الحقيقة ليس الجميع، كل الجميع. فقد قضى اتفاق سابق بأن يتم السعي إلى إشراك فصائل فلسطينية، لا تدعى إلى جلسات الحوار، في تلك الجلسات. ولكن الأمر لم يتحقق، ولم تدع تلك الفصائل. وفي القاهرة عقد الاجتماع، فتحدث الموجودون في بند أو اثنين، قبل أن تندلع معركة حامية الوطيس بين عزام الأحمد عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وفهد سليمان عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية، حيث تبادل الرجلان شتائم وسباباً من العيار الثقيل، ما أدى إلى رفع الجلسة، ثم تحويل بنود البحث على اللجان التي ستجتمع في عمان بعد شهرين.( شهران نعم وشو عليه؟) لاستكمال البحث في بنود يعلم الجميع أن لا نية بالعمل فيها، ولكنها تحقق استمرار العملية على نحو ما. وتفرق الخلان على أمل تحديد مواعيد أخرى لمتابعة ملفات المصالحة. ودون أن يعلم الفلسطينيون، أقصد الشعب الفلسطيني موضوع هذه اللقاءات كما يفترض، شيئاً واضحاً عما أنجزته قياداته الرشيدة والملهمة والاستثنائية في الزمان الصعب. ويمكن التخمين أن الفلسطينيين في غالبيتهم، لم ينتبهوا لحدوث هذه الاجتماعات ولا إلى انفضاضها دون نتائج. فلقاءات المصالحة على حد تعبير أحدهم صارت مثل مفاوضات التسوية. لا تعويل عليها، ولا خير يرجى منها، إلا أنها موجودة.
نتائج طبيعية
ليس هناك ما يفاجئ في كل هذا. وليس من باب جلد الذات أيضا، ولكن الاستقالة من مباشرة هموم الشعب الفلسطيني، ومطالبه، وخياراته، لن تعطي نتيجة أفضل. وحتى لا نعاود ما قلناه مرارا، يكفي أن نذكر بقضية أساسية. لقد أبدع العقل الكفاحي الفلسطيني مقولة استثنائية، ووافرة الأهمية وهي: إدامة الاشتباك مع العدو. والترجمة الفعلية لهذه المقولة تعني المقاومة المستمرة، التي تبقي القضية حاضرة ومتوهجة، وتمثل عنصر استنزاف دائم للعدو الصهيوني، وتضرب على نحو مؤثر فكرة الاحتلال المريح، وغير المكلف.
الابتعاد عن تجسيد هذه المقولة أمرا واقعا، سيحول الفصائل نحو مقاومة الضجر. لكن الضجر من ممارسة مقاومة الضجر، وصل حداً لم يعد يحتمل. وهذا يكفي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 543