لقاء مع الباحث د. مصعب عزاوي: «البعد النفسي للفعل الاستشهادي»

لم يوفر العدو الإسرائيلي جهداً في سبيل تدمير الحجر و البشر في فلسطين، ولم يتوقف الأمر عند الأسلحة التقليدية في الحروب، بل امتد ليطال كل أجهزة الإعلام المتوفرة بين يديه، فكانت حرب نفسية وإعلامية غيرت الكثير من المفاهيم والاصطلاحات وقد ظهرت عدة بحوث في هذا المجال وكانت من أهم هذه البحوث محاضرة ألقاها د. مصعب عزاوي بعنوان البعد النفسي للفعل الاستشهادي، وتوقف الدكتور عزاوي في هذه الدراسة عند موضوع العمليات الاستشهادية البطولية التي ينفذها أبطال الانتفاضة الباسلة في أرضنا العربية الفلسطينية. وكيف يمكن لعلم النفس والطب النفسي التصدي لمهمة التفسير النفسي للفعل الاستشهادي كفعل إيثاري عطائي الهدف، والمنهج موضحاً الفرق عن الانتحار كفعل إفنائي ذاتي.... وعن هذه الدراسة ومشروع الدكتور عزاوي في البحث كان لقاسيون هذا اللقاء...

- ما هو المحفز والدافع وراء هذا البحث؟
لقد انطلق اهتمامي أساساً من نقطتين محفزتين اثنتين:
أولاهما: هو رفضنا العلمي والأخلاقي لما يطرحه الخطاب السياسي الغربي عموماً والأنجلوساكسوني خصوصاً في أمريكا وبريطانيا، عندما يحاول إطلاق تسمية العمليات الانتحارية على الأفعال الجهادية الاستشهادية على الرغم من أن لغتهم وأدبياتهم تحوي مفردات مقابلة للفعل الاستشهادي أو الفدائي.
وثانيهما: ضرورة إضاءة  بعض النقاط التي تغفل عنا نحن العرب أيضاً في محاولتنا للتفهم العقلاني الضروري بالتساير مع تعاطفنا الروحي الصميمي مع شهدائنا ومجاهدينا الأبطال حيث يمكن أن نقدر خطأ في بعض الأحيان، حين يخالجنا بعض الظن بأن أولئك الاستشهاديين والاستشهاديات ينطلقون في مثل هذه العمليات لأنه لم يعد لديهم ما يخسرونه، ولكن هذا وأمثاله من بعض الخطل في التفسير يجافي الحقيقة العلمية والواقعية التي سنسعى معاً لاكتشاف جوهرها النفسي النضالي الأكثر عمقاً وعطاءً.

- ىما هي المنهجية التي اتبعتها في بحثك العلمي لتوضيح هذه الفروقات بين الفعل الاستشهادي والانتحاري؟
لقد حاولت في مقاربتي هذه  اعتماد منهج المقارنة الأكثر مباشرة، لتبسيط العرض وجعله أكثر يسراً في التمثل المعرفي لهذا الفرق الجلي بين الفعل الاستشهادي وعملية الانتحار، والذي هو الهدف الأسمى في هذه الدراسة. وكانت البداية تفضيل تسمية الانتحار في النصوص المرجعية الأنجلوساكسونية بالسلوك  الانتحاري، إذ أن الانتحار يعتبر نتيجة لنموذج معين من السلوك يوصف بأنه سلوك انتحاري وهو ينطوي على معالم سلوكية مميزة تتمحور  حول أفكار إفناء الذات والقطيعة المطلقة مع الوسط الاجتماعي المحيط، ومحاولات تنفيذ الانتحار المتكررة، والتي قد تتكامل في إحداها للوصول إلى الانتحار  الفعلي، أو تبقى دون الوصول إليه فعلياً، وتظل في إطار السلوك الانتحاري. وتتوضح  معالم هذا السلوك الانتحاري من خلال المرور على العناصر الجوهرية المميزة للبنية النفسية والسلوكية المرتبطة به والممثلة له ومن ثم مقابلتها مباشرة بتلك العناصر الأخرى المميزة للفعل الاستشهادي.

- وكيف تمت عملية التقسيم هذه، أو كيف تمت عملية التفرقة بين معالم السلوك الانتحاري والاستشهادي؟
إن هذه الفروق أو الاختلافات واضحة وجذرية تتجسد في عدد من النقاط:

أولها: انفصال الذات عن الوسط الاجتماعي:
فقد يكون الملمح الأول المميز للسلوك الانتحاري هو التمركز المفرط حول الذات والتي غالباً ما تحتضر في بؤسها،  حيث تنحصر رؤية المقدم على الانتحار برؤية نفقية محدودة لا تبصر إلا إعتام النفق الطويل دون بؤرة الضوء في أخره لشدة ضيقه وإعتامه فكرياً ونفسياً، ويلحظ انفصال الذات عن محيطها الحيوي والاجتماعي، هو إحساس ذلك الشخص بعدم المقدرة على محبة الآخرين وعدم الاكتراث بالحياة وإمكاناتها المتعددة التي لا يمكن تفعيلها إلا من خلال التفاعل البناء مع الوسط الاجتماعي المحيط والذي يكون السلوك الانتحاري أبعد ما يكون عنه، إذ يسيطر الشعور بفقدان القدرة على التفاعل العاطفي مع الآخرين، والإحساس بالعقم النفسي المطلق وعدم القدرة على الانخراط إنسانياً في شبكة العلاقات الروحية الحميمية. أما في حال الفعل الاستشهادي، فيمكن أن نرصد الملمح الأول النقيض لانفصال الذات، والمتمثل في الالتحام الكلياني بهم ومعاناة الآخرين، منظوراً إليهم بكونهم جزءاً من الشبكة الروحية الإنسانية البسيطة التي يشكل فيها الفرد جزءاً لا يمكن له أن ينفصل عن معاناة أخوته في المجتمع الذي يعيش فيه، فيكون نتاج ذلك اندماج عضوي بالحالة النضالية اليومية. بحيث يصبح النضال والتضحية من أجل محبة الآخرين والحفاظ على سعادتهم هي المقام الأول قبل أي سعادة فردية، وتصبح بذلك مصلحة المجتمع في مطلق التقديم على  مصلحة الفرد الضيقة وإن ذلك الوعي  الاندماجي بلحظة التكاتف والإيثار المطلق ينتج تفاعلاً حميمياً يومياً ومنتجاً شبكة نضالية تشكلها لحمة جميع المجاهدين.

ثانيها: سلوك تدمير الذات:
يلاحظ على صاحب السلوك الانتحاري ميل للإقبال على الإدمان بأشكاله المختلفة وخاصة الإدمان الكحولي منه، وعلى الأدوية النفسية، المقترن بالإهمال الواضح لشروط الحفاظ على الصحة الذاتية، والإفراط في تناول الطعام وبعشوائية واضحة، والأهم من ذلك كله السلوك الإجرامي المتهور  والذي يحكمه التوجه غير الواعي لدى صاحب السلوك الانتحاري برؤيته التي ترى عدمية وعبثية وجود الذات، لإحساسه بالانفصال المطلق عن أي رابط يصله بذاته المدمرة أو بمجتمعه المنفصل عنه.

أما في حالة الاستشهاديين والاستشهاديات لا يمكن  لأي كان أن يطابق بين سلوك تدمير الذات وبين هؤلاء المجاهدين، إذ لا يمكن وضعهم تحت نموذج تصنيفي واحد يحكمهم كما يحكم أولئك المقدمين على الانتحار، ولب ذلك في أن هؤلاء الاستشهاديين لولا معركتهم النضالية الحاسمة للدفاع عن وجودهم الإنساني لكانوا أناساً بسطاء نموذجيين، طلاباً ومعلمين وحرفيين ومختلف أشكال العمل المهني في المجتمع، إذ أنهم كانوا قبل نضالهم التحرري منخرطين في مختلف الفعاليات الحياتية اليومية، لا يمكن لأحد أن يطلق على هذا الطيف الواسع من التنوع في تلاوين ومشارب أولئك المجاهدين المنتسبين إلى مختلف الفصائل الوطنية والدينية على اختلاف مستويات وعيها النظري والتطبيقي، بأنهم ميالون للإدمان أو السلوك الإجرامي، فهؤلاء الشباب والفتيات الذين نفذوا العمليات الاستشهادية بالتأكيد ليسوا إدمانيين متهورين إجراميي التوجه. كما أن السلوك الانتحاري يعتبر من النقاط الهامة في الدراسة. فقد أشارت الدراسات والأبحاث النفسية جميعها ومن ضمنها البحوث والإحصائيات الأمريكية، إلى أن السلوك الانتحاري يرتبط بشكل وثيق بالخواء العقائدي الذي يتمثل بعدم ارتباط صاحب السلوك الانتحاري بأي منهج خاص لتفسير العالم بحيث يكون ذلك المنهج مدخلاً يمكنه من فهم وتفسير التناقضات التي تظهر في الشبكة الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ الثقافية التي يعيش الفرد فيها. وينطوي منهج تفسير العالم على عدة اتجاهات تتمثل في المناهج  الدينية المختلفة، والمناهج الأيديولوجية ـ السياسية المتعددة. وتوضح الدراسات أن نسبة الانتحار أقل عند المسيحيين الكاثوليكيين والأرثوذوكس من تلك عند البروتستانت نتيجة الارتباط الأوثق للمجموعة الأولى بالتعاليم الكنسية المسيحية، أكثر من هؤلاء الأخرين الذين يبدون أنهم يرتبطون بشكل واه مع الكنيسة، وتكون نسبة الانتحار في المستويات الأدنى عالمياً عند المسلمين الذين يرون تحريم الانتحار ولكنهم بالمقابل يجلون الاستشهاد فهم أقل المنتحرين ولكنهم أكثر الشعوب تقديماً للشهداء والتاريخ سيظل يذكر الجزائر أرض المليون شهيد، وسيتذكر تلك الأراضي العربية الأخرى المستعدة لتقديم الملايين الأخرى.

وتكون نسبة الانتحار في أدنى مستوياتها أيضاً عند المنخرطين في منظومة أيديولوجية ذات طبيعة إنسانية،حيث تشير الدراسات إلى  أن التدني الملحوظ في معدلات الانتحار عند الشيوعيين والاشتراكيين عموماً، وأعضاء أحزاب البيئة والحركات النقابية والعمالية، والعاملين في حقل الجمعيات والمجتمع المدني ومؤسسات العمل الأهلي. وإن محاولة للتدقيق حول الغنى والثراء العقائدي عند الاستشهاديين والاستشهاديات سيكون فاتحة لحديث طويل قد تقصر عنه آلاف الصفحات، إذ أن نقطة العلام الأولى والأهم فيه هو تعدد مشارب ومرجعيات أولئك المناضلين  وانسجام كل منهم مع النموذج العقائدي الذي يعتنقه ضمن إطار جامع وموحد لجميع الفصائل النضالية حول جوهر العمل الوطني التحرري، ونبذ وتنحية  كل الخلافات الأيديولوجية الجزئية لصالح وحدة الصف الكفاحي. ويشترك في هذا جميع الفصائل الإسلامية الأصيلة في حركة الجهاد الإسلامي وحماس، وفصائل المقاومة الوطنية في كتائب شهداء الأقصى، والفصائل الاشتراكية الراديكالية في الجبهتين الشعبية والديمقراطية، وآخرها المثل القدوة في الصمود العقائدي الملتزم في حزب الله اللبناني.

وأخر النقاط التي تسم الفعل الانتحاري هي: التهتك الاجتماعي وهرم السلوك الانتحاري:
وهنا نشير إلى ثلاثة عناصر مميزة للسلوك الانتحاري تستطيع أن نقدم بنية مكملة ووصفية لذلك التناقض الجلي بين سمات وملامح  السلوك الانتحاري مع نقائضه الموجودة في الفعل الاستشهادي المضحي:

1. تقدم أعمار المقدمين على الانتحار:
الإحصائيات تشير إلى أن هناك 85 شخصاً يقومون بالانتحار يومياً في أمريكا وتكون النسبة بحدود 70% من أولئك المنتحرين حيث تكون أعمارهم فوق 40 سنة والغالبية العظمى منهم تقع في الفئة العمرية التي تزيد عن 60 سنة. وإن السمة السابقة تتناقض جوهرياً مع المعطية الواضحة التي تشير إلى أن أغلب الاستشهاديين والاستشهاديات هم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم وسطياً بين 16 ـ 28 سنة، والذين تشير الدراسات المرجعية إلى أنهم أقل المجموعات العمرية توجها ًنحو الانتحار.

2. التفكك والتهتك الاجتماعي في واقع المنتحرين:
وتشير هذه الملاحظة الملموسة على انتماء المنتحرين إلى أوساط اجتماعية مفككة يسودها التهتك الاجتماعي والأسري، إذ أن نسبة الانتحار تتدنى كثيراً لدى الذين يعيشون في وسط اجتماعي متلاحم عائلياً واجتماعياً، ولا يمكن لأحد أن يعتقد بكون المجتمع  العربي النضالي في الأرض العربية الفلسطينية مجتمعاً مفككاً متهتكاً، إذ أنه في نتاجه الكفاحي وصبره النضالي أعطى مثلاً وصفياً عن المجتمع المتلاحم والمرصوص كبيت واحد في المعاناة والمأكل والنضال.

3. الفقر الاجتماعي وليس الفقر المادي هو مقدم الانتحار:
ويعتبر من أكثر العناصر أهمية. إذ أنه العنصر الأهم في دحض كل الإدعاءات الانهزامية التي تقول بأن الفقر المادي والبؤس الاقتصادي هو الدافع الأكبر للانتحار ليستنتج منه مقولة خاطئة معرفياً وعلمياً تقول بأن الفقراء المسحوقين في الأراضي العربية المحتلة لا يجدون أمامهم إلا خيار الانتحار، وهذا الرأي هو الخطأ بعينه، حيث تشير الدراسات المرجعية جميعها إلى أن الفقر الاجتماعي والروحي هو الذي يشكل الدافع الأكبر نحو الانتحار، وهذا ينطبق بشكل جلي وواضح على أولئك المنتحرين في الغرب وأمريكا حيث أن 80% من المنتحرين لا يكتبون أي وصية على الإطلاق حيث أ نهم لا يجدون من يقرأ هذه الوصية ويكون مقرباً منهم من الناحية الروحية والإنسانية. مع الإشارة الضرورية إلى أن نسبة كبرى منهم تكون من المترفين اقتصادياً ولكنهم يظلون فقراء روحياً واجتماعياً.
أما في حالة المجاهدين الفدائيين فإنه على الرغم من فقرهم المادي فهم الأغنى والأثرى روحياً واجتماعياً وأكثر التصاقاً بمجتمعهم، حيث تكون وصيتهم قبيل استشهادهم  من اكثر الكلمات جرأة وتشخيصاً لمكمن الألم  وخنجراً يدافع عن الحق الثابت في الدفاع عن الأرض والوطن، ويطعن كل أولئك الخونة بكلمات تشير إلى التحامهم اللصيق والعضوي بأولئك الذين سيسمعون هذه الوصية من الفئات الشعبية التي كان الفعل الاستشهادي هو قمة التمثل النضالي لنبضها وحلمها في الكفاح لتحرير الأرض والوطن.

- من الملاحظ أنك خلال البحث أكدت بشكل كبير على عودتك واعتمادك على المراجع الأنجلوساكسونية والأمريكية، فما السبب وراء ذلك؟

إن اعتمادي بشكل مطلق على جملة المراجع الأنجلو ساكسونية والأمريكية منها بالتخصيص  التي تمثل مصادر للبحث  والدراسة في الغرب وأمريكا لأوضح استعدادنا الكامل لمقارعة أي من القادرين على رفض أي من المعطيات التي أوردناها. ونشير قبل ذلك إلى أي من المحتجين علينا بالعودة  لقراءة ما يكتب في أمهات الكتب  الغربية عن السلوك الانتحاري والانتحار قبل التشدق علينا بتهم الموضة السياسية الأمريكية من قبل الإرهاب ودعم الإرهاب التي تحور كل كفاح وطني مشروع تكفله مواثيق حقوق الإنسان وشرعة الأمم المتحدة، وتحويله إلى تهمة بالإرهاب ومعاداة السلام. ونحن بالتأكيد ندين كل أنواع الإرهاب وعلى رأسه الإرهاب الصهيوني وإرهاب الدولة الأمريكي والذي هو بالتأكيد لا ينسحب على الكفاح الوطني التحرري المشروع في فلسطين الأبية وفي كل بقعة من هذا العالم فيها شعب يناضل من أجل الحرية والاستقلال.

- كلمة أخيرة؟

أود أن أدعو كل الأخوة الباحثين العرب والمهتمين جميعاً إلى المشاركة في التصدي الفكري والعلمي لكل الهجمات المضللة التي شنها القطب الإمبريالي الصهيوني على كفاح أمتنا التحرري، ومن أجل ذلك نعمل على صياغة هذا المقال وغيره باللغة الإنجليزية والذي سنعمل على نشره قريباً لكي يسمع ويعرف القارئ الغربي الرأي العلمي الصواب، ويعرف مالم يعتد أن يسمعه من الخطاب السياسي الغربي المضلل.

وأعيد القول بأن معركتنا الحالية قد تكون الأخيرة إذا لم تحشد الجهود كاملة وإلى الحد الأقصى لها من اجل الحفاظ على وحدتنا ولحمتنا الوطنية والنضالية لدعم صمود أهلنا الصابرين المكافحين بكل أشكال المساندة المادية والمعنوية والاستشهادية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
177