مع صعود اليسار البوليفاري أورتيغا يعود لساحة أمريكا اللاتينية رغم أنف واشنطن

وسط إشادة المراقبين الدوليين بإقبال الناخبين ونزاهة العملية الانتخابية، ومتقدما بفارق تسع نقاط على أقرب منافسيه المرشح المحافظ والمصرفي الثري إدواردو مونتيلغري فاز زعيم الجبهة الساندينية للتحرّر الوطني دانييل أورتيغا في الانتخابات الرئاسية التي جرت في نيكاراغوا يوم الأثنين الماضي حاصلاً على أكثر من 38% من الأصوات، مع العلم أن المرشح للرئاسة في نيكاراغوا يحتاج إلى أكثر من 40% من الأصوات أو 35%، مع تقدمه بفارق خمس نقاط على المرشح بالمرتبة الثانية للفوز من الجولة الأولى.

وجاء فوز أورتيغا على الرغم من الجهود الواضحة التي بذلتها إدارة بوش لتوحيد اليمين في نيكاراغوا وتحذيرها من أن المساعدات والاستثمارات الأميركية ستنخفض في ظل توليه الرئاسة مجدداً. إلا أن القوى المناهضة لساندينيستا بقيت منقسمة على نفسها. فالجناح التقليدي، أو الحزب الليبرالي الدستوري، الذي يسيطر عليه الرئيس السابق أرنولدو أليمان الخاضع حالياً للإقامة الجبرية في منزله منذ أدين بتهمة الفساد، رشح خوسيه ريزو. أما الجناح الموصوف بالمعتدل والذي يمثله التحالف الليبرالي فيقوده رجل البنوك إدواردو مونتيليغري الذي يحظى بدعم هائل من القطاع الخاص وإدارة بوش. وكلاهما خسر أمام أورتيغا.
وحتى قبل أن تظهر نتائج الانتخابات الرئاسية في نيكاراغوا معلنة إياه رئيساً للبلاد من جديد، بدأت صفارات الإنذار تدوّي في واشنطن، بعد أن رجحت استطلاعات الرأي مسبقاً احتمال فوزه وهو الرئيس الأسبق وزعيم «الجبهة الساندينية للتحرّر الوطني» والذي شكّل في الثمانينيات خط الدفاع الثاني لليسار في أميركا اللاتينية بعد الزعيم فيديل كاسترو.
وفيما تشهد القارة الجنوبية نهوضاً يسارياً كاسحاً، تبدي الإمبراطورية الأميركية قلقاً كبيراً، بعدما بات الزحف الأحمر يتجه شمالاً، على الرغم من تجاوز المكسيك مرحلياً، مع كل ما تحمله إعادة انتخاب اورتيغا من رمزية لجهة عودة الثورة في موازاة صمودها في كوبا.
وبعد عقد على انتصار «الثورة المضادة/عصابات الكونترا»، التي أطاحت بأورتيغا، بدعم مباشر من الولايات المتحدة، يبدو زعيم الساندينيين اليوم مختلفاً، في وقت تبدّلت فيه موازين القوى الراعية للثورة في أميركا اللاتينية، التي طالما اعتبرتها واشنطن حديقتها الخلفية.
في الستينيات انضم أورتيغا، وكان يومها في سنوات دراسته الأولى في الجامعة الأميركية في ماناغوا، إلى الحركة الساندينية، في مرحلة العمل السرّي، حيث تولّى قيادة الجناح العسكري في العام 1967 إلى أن اعتقل ثم أطلق سراحه في عملية تبادل للأسرى مع الحكومة في العام 1974 حيث توجّه إلى هافانا ليعود مجدداً إلى بلاده لمواصلة الثورة التي تكللت في تموز من العام 1979 بإسقاط نظام سوموزا المدعوم من الولايات المتحدة.
تولى اورتيغا قيادة مجلس قيادة الثورة حتى العام 1984 حيث فاز في أول انتخابات عامة في ظل الحكم الجديد، في وقت قامت فيه إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان بتوفير دعم مالي وعسكري بملايين الدولارات لعصابات الكونترا الذي شنّوا حرباً أهلية كلفت أبناء نيكاراغوا خمسين ألف ضحية والساندينيين أثماناً باهظة ما دفعهم في النهاية على القبول بمبادرة السلام التي اقترحها رئيس كوستاريكا اوسكار ارياس سانشيز في العام 1989 لتتكرس هزيمتهم بعد سنة مع فشل اورتيغا في الانتخابات ليخلفه فيوليتا باريوس دي تشامورو، بالتزامن مع «زلزال العصر»، الذي أفقد تلك الجبهة الساندينية الحاضنة الأممية المتمثلة بالاتحاد السوفياتي.
وفيما تبدو الطريق إلى السلطة من خلال الانتخابات أقل كلفة من خيار حرب الأنصار بالنسبة لمناضل يقارب الستين، فإنّ الحملات الانتخابية لم تكن بالنسبة لأورتيغا أسهل من المعارك العسكرية، بعد أن لم يتمكن من استعادة الحكم في انتخابات العام 1996 و2001
وانطلاقاً من مجمل المتغيرات التي شهدها العالم في فترة «الانهيارات الكبرى» في بداية التسعينيات، وتجربة «الاشتراكية الجديدة» التي يعمل الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز على تعميمها في أميركا اللاتينية، أحدث أورتيغا تغييرات نوعية على العناصر الشكلية وربما الموضوعية لتوجهاته السياسية والاقتصادية، لكنه حافظ على الكثير من مظاهر الثمانينيات، قد يكون أهمها وأكثرها رمزية المحافظة على تسمية «الجبهة الساندينية للتحرّر الوطني»، وصداقته المتينة بكاسترو، واستمرار مناهضته للجشع الرأسمالي ضمن ما يسميه يسار جديد يسعى لفكرة المصالحة الوطنية في نيكاراغوا.
وفي السياسة الخارجية، تفرض الشروط الموضوعية للسياسة الدولية الراهنة على أورتيغا واقعاً جديداً، بعد أن فقد، بانهيار الاتحاد السوفياتي حليفه السياسي والعسكري، واتجه نحو «البديل البوليفاري» بهدف مواكبة الانتفاضة اليسارية في أميركا اللاتينية، فحلّ النفط الفنزويلي مكان الأسلحة السوفياتية، وبات تشافيز النموذج الجديد.
وبرغم تلك المتغيرات بقي الأميركيون ثابتين على موقفهم إزاء اورتيغا، وإذا كان ريغان في الثمانينيات قد وصفه بـ«الدكتاتور الصغير الذي ذهب إلى موسكو»، فإنّ موقف الإدارات الأميركية المتعاقبة وصولاً إلى بوش حافظت على ذاك الحذر التاريخي، وهو ما عبّر عنه سفيرها لدى نيكاراغوا بول تريفلي الذي قال مؤخراً إن «اورتيغا نمر لم يغّير مخططاته». وربما ستكون الأشهر الأولى من فترة حكمه في ولايته الجديدة كفيلة بالكشف عن حجم وحقيقة المتغيرات في رؤية وممارسة الزعيم النيكاراغوي الذي يترأس واحداً من البلدان المصنفة بالأكثر فقراً في أمريكا اللاتينية، ولاسيما لجهة مناهضته للسياسة الأمريكية ومواكبته للنهوض الثوري في تلك القارة.         

معلومات إضافية

العدد رقم:
285