جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

العراق.. التناقض الأمريكي المستعصي ضرورات التكتيك و «قداسة» الاستراتيجيا

يقول الصحفي الأمريكي وليم فاف تعليقاً على عمق المأزق الأمريكي في العراق: «في شهر أغسطس 2003 وبعد مضي أربعة أشهر على إصابة العراقيين بـ«الصدمة والرعب» جراء الغزو الأميركي لبلادهم، كانت المقاومة الشعبية للاحتلال الأميركي قد بدأت بالفعل، ورغم أن البيت الأبيض كان لا يزال في ذلك الوقت منتشياً بنجاحه العسكري، فإن الكثير من العقلاء في واشنطن أدركوا أن فلاسفة الفوضى والتدمير الخلاق في الإدارة، أخفقوا في أن يضعوا في اعتبارهم إمكانية قيام حركة مقاومة في البلد الذي قاموا باحتلاله، وأنهم لم يقوموا برسم استراتيجية خروج لأنهم لم يتوقعوا الخروج من العراق، بل سينطلقون منه للسيطرة على باقي الشرق الأوسط وغرب آسيا».

وهكذا، فإن المقاومة العراقية التي لم يحسب لها استراتيجيو الفوضى في إدارة الصقور الأمريكية أي حساب، تدفع بالمحتلين اليوم إلى حافة هاوية قد ينتج عنها انهيار شامل ليس لاستراتيجيتهم العدوانية فحسب، وإنما لإمبراطوريتهم الاقتصادية والعسكرية، ولوحدتهم السياسية برمتها!!
الآن، وأكثر من أي وقت مضى يعاني الأمريكيون من انعدام الحيلة تجاه تعقيدات الوضع العراقي التي اختلقوها بأنفسهم وبوسائلهم الخاصة، فبعد أن استطاعوا تحقيق (نجاحات ملموسة) في فرز الديموغرافيا العراقية على أسس عرقية وطائفية ومذهبية، ودفع الأمور بين هذه النسج التي لطالما كانت متناغمة، إلى حدود غير مسبوقة تاريخياً من الاختلاف والتباين فيما بينها، وتكريس كل ذلك في الحياة اليومية للسكان وفي الممارسة السياسية، مستفيدين من التركة السيئة للأنظمة الاستبدادية (الوطنية) التي تعاقبت على حكم العراق منذ ما بعد الاستقلال، ها هم الآن يحصدون أولى مواسم ما زرعوا استعصاءات شاملة على جميع المستويات..
فعلى مستوى التناقض بين متطلبات وآليات تنفيذ المخطط في الداخل ومتطلبات الجوار الإقليمي للعراق، تبدو الاستراتيجية الأمريكية تائهة ومرتبكة تكتيكياً بين الاستمرار في إرضاء وطمأنة الحلفاء التاريخيين لها في المنطقة (تركيا- السعودية وأنظمة الخليج عامة) وبين السير بمخططها (الشرق الأوسط الجديد) القائم أساساً على التفتيت العرقي والطائفي والإثني، خصوصاً وأن زعماء الداخل العراقي الجدد الموعودين بالفيدراليات والمناصب الرفيعة، باتوا غير مطمئنين للتسويف الأمريكي والمتزامن مع بدء تزعزع ثقة القاعدة الشعبية التي يفترض أنهم يمثلونها بهم، الأمر الذي قد يؤدي فيما لو استمرت الحال على هذا المنوال إلى بداية مرحلة الانفكاك بين هذه القيادات  النخبوية وبين الشعب العراقي في شتى أنحاء البلاد..
فالأكراد العراقيين الذين لم يحصلوا حتى الآن على أية مكاسب حقيقية بوجود الاحتلال، ازدادت واتسعت الهوة بينهم وبين زعمائهم على أثر الصدامات العمالية الأخيرة، وبدؤوا، ولو بالحدود الدنيا يكتشفون أن المشكلة ليست في الهوية القومية للحاكم القابض على السلطة بقدر ما تكمن في سياساته وتوجهاته وطبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي المعتمد، كذلك الحال بالنسبة لبقية الشرائح والفئات العراقية التي لم (تربح) حتى الآن سوى الفوضى العارمة والقتل اليومي وانعدام الأمن والاستقرار وغياب البرامج الاقتصادية- الاجتماعية المنوط بها تحسين معيشتهم. إذن، يجد الأمريكان أنفسهم في هذا المنحى عاجزين عن التوفيق بين ما يريدون تكريسه من تقسيم على شكل فيدراليات، وبين الحاجة الماسة لدعم الحلفاء المجاورين للعراق الرافضين للتقسيم و(الخائفين) من الفيدراليات لأسباب تتعلق باستمرار كياناتهم، ولذلك تتخبط سياساتهم وتتناقض تصريحات دبلوماسييهم وقادتهم العسكريين، فتارة يسعون للحوار مع الحلفاء وطمأنتهم، وتارة يعقدون الصفقات مع بعض القادة الطائفيين والعشائريين في الداخل العراقي، وتارة يبحثون عن ممثلي المقاومة العسكرية والسياسية لإيجاد صيغة للمساومة.. كل ذلك دون الوصول واقعياً لأي نتيجة من شأنها تخفيف الضغط السياسي عن حكام البيت الأبيض، أو الخسائر البشرية الكبيرة جداً التي تتعرض لها قواتهم الغازية بفعل عمليات المقاومة المتصاعدة يوماً بعد يوم..
لقد أثبتت الأحداث المتلاحقة أن المحتل ليس سوى مراوغ، كما أنه لا يحمل في جعبته أي مشروع ديمقراطي، وأن جل ما يسعى إليه هو تقسيم البلاد وزرع الشقاق بين أهلها بغية البقاء فيها أكبر وقت ممكن من أجل نهبها واستنزاف خيراتها، كما أثبتت المقاومة البطولية للشعب العراقي في مختلف أرجاء البلاد أن المحتل ليس كلي القدرة، وأنه من الممكن إنزال الهزيمة به وطرده خارج البلاد خصوصاً إذا ما اقتنع جميع العراقيين أن طريق الاستقلال الحقيقي والحرية الحقيقية لا يمكن أن عبوره إلا بوحدة أرض وإرادة كل أبناء العراق..

معلومات إضافية

العدد رقم:
285