ديمقراطة اليسار في مواجهة «الديمقراطية الأمريكية» شافيز يكسب الجولة، وبالضربة القاضية!

■ 58.25% هوغو شافيز ينتصر في الاستفتاء الذي نظمته المعارضة

■ درس في الديمقراطية من فنزويلا

في العام 1998، انتخب الكولونيل والمظلّي السابق هوغو شافيز رئيساً لفنزويلا بأغلبيةٍ ساحقة، على أساس برنامجٍ ينادي بالتحوّل السياسي لبلاده. وقد جرى سنّ دستورٍ جديد أثناء ولايته الأولى. وفي العام 2000، أعيد انتخابه حتى العام 2006، بنسبة 60% من أصوات الناخبين وبرلمان يهيمن عليه أنصاره. عندها بدأت تحركات المعارضة المدعومة أمركياً لإبعاد الرئيس المنتخب ديمقراطياً عن الساحة.

الشارع الفنزويلي ينتصر للديمقراطية:

في يوم 15 آب قرر الناخبون الفنزويليون إبقاء شافيز رئيساً. لم يكن الاستفتاء في فنزويلا انتصاراً للشعب الفنزويلي فحسب، بل كان استفتاءً على آلية حكم، على طريقة عيش.. هذه العبارات ليست عناوين الصحافة اليسارية العربية بل هي ما جنحت إليه معظم العناوين في الكثير من الدول العالم في صحف منها اليسارية ومنها المعتدلة، وحتى المرتبطة يمنياً في بعض الأحيان.

فاز رئيس الدولة بنسبة 58.25% من الأصوات مقابل41.74% من الأصوات للمعارضة. جرى الاستفتاء، بمشاركةٍ كثيفة، وبنحو الساعة الرابعة بالتوقيت المحلي في 16 آب، أعلنت اللجنة الانتخابية الفنزويلية الوطنية أنّ شافيز انتصر في الاستفتاء الذي نظّم في اليوم السابق في البلاد حول بقائه في السلطة. ووفق النتائج التي نشرتها السلطات الانتخابية بعد فتح 94% من الأصوات، فاز رئيس الدولة بنسبة 58.25% من الأصوات مقابل 41.74% من الأصوات للمعارضة.

وكان مناصرو ومعارضو الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز قد نزلوا إلى شوارع كاراكاس في ساعةٍ مبكرة من صباح الاثنين، بانتظار إعلان نتائج الاستفتاء حول بقاء أو عدم بقاء الرئيس في السلطة.

مناصرو المعسكرين نزلوا إلى شوارع العاصمة قبل إعلان النتائج. مناصرو شافيز، بقمصانهم القطنية الحمراء، يغنون: لن يرحل!،

أما شافيز خيسوس توريالبا، الناطق باسم المعارضة، فكان يتنبأ بانتصار حركته.

حدوته لأحلام الفنزويليين السعيدة :

بلغت كثافة المشاركة لدرجة أن حاصر الناخبون مكاتب التصويت، وامتدّت صفوف الانتظار الطويلة في المساء في خامس أكبر دولة مصدّرة للنفط.

واستيقظت المدينة في الثالثة صباحاً على صوت الأجراس وأضواء الألعاب النارية.

في الريف، كما في كاراكاس، جاء الناخبون عائلات، ومعهم عدة الانتظار كراسي صغيرة مياه قهوة وطعام. وضاعفت السلطات النداءات خشية أن يحرّض أدنى حدثٍ صغير اندلاع العنف.

صباح الأحد، دعا هوغو شافير إلى الحفاظ على السلام في البلاد. وقال: هذا اليوم هو درسٌ في الديموقراطية، ونرجو الله أن يستمر هذا اليوم «في جوٍ من الهدوء»، موجّهاً التحية إلى الشعب المنضبط الذي سمع صوت الأجراس في الثالثة صباحاً واستيقظ كي يصوّت.

أثار هذا الاستفتاء، قلقاً شديداً في الأوساط النفطية المتأثرة بشدّة بارتفاع أسعار النفط الخام (أكثر من 46 دولار للبرميل)، وبصفةٍ خاصة في الولايات المتحدة التي تستورد 1.54 مليون برميل يومياً من النفط الفنزويلي.

صباح الاثنين، وبانتظار النتائج، ضربت أسعار النفط رقماً قياسياً بلغ 46.76 دولار(37.83 يورو) للبرميل في سوق سنغافورة للبيع الآجل، كما بلغت العقود الآجلة للنفط رقماً قياسياً بلغ 46.90 دولار في سوق نيمكس خشية حدوث اضطرابات وإشكالات في التزويد.

إلاّ أن أحلام الفنزويليين لن تستمر سعيدة مع رئيسهم إذ أن الإمبريالية لن ترضى أن تكون هناك دولة مثل فنزويلا، وبدأ الحديث من الآن عن سيناريوهات كثيرة تشبه تلك التي عمل بها في دول مجاورة في أميركا الجنوبية.

الإمبريالية لا تستسلم:

من الواضح أنّ الإمبريالية لا تستطيع التخلّي عن سحق المسار الفنزويلي، مثلما لا يمكن لها التخلّي عن سحق كوبا وجميع أشكال المقاومة التي تعارض النهب الذي تقوم به الإمبريالية على مستوى العالم. والأمر لا يقتصر على وضع يدها على نفط فنزويلا، بل عليها أن تمنع انتشار العدوى.

إن أهم الأفعال التي لا تغتفر لشافيز في عيون الإمبريالية هو قيامه، داخل أمريكا اللاتينية، بمقاومة الإملاءات الأمريكية الشمالية. وكان السياق سياق فرض الولايات المتحدة لسوقٍ كبرى ليبرالية جديدة، تمتدّ من كندا إلى كاب هورن، مفتوحةٍ تماماً أمام رؤوس الأموال والمنتجات الأمريكية، تدعى منطقة التبادل الحر الأمريكية. وقد أدى انتخاب حكومات اليسار والأزمة الأرجنتينية وصعود الحركات الشعبية بصورةٍ خاصة في البلدان الأندينية ــ حيث قلب التمرّد الذي قام به السكّان الأصليون الحكومات التابعة للولايات المتحدة ــ إلى بدء تغيير المعطيات. لقد رفض تجمّع الجنوب الأمريكي المكوّن من البرازيل والأرجنتين وأورغواي إغراق نفسه. وتزعّم شافيز مقاومة الحكومات باقتراح تحالفٍ لجنوب القارة والبلدان الكاريبية، لا بل كان استفتاء شعبياً ضدّ تلك السوق الكبيرة الليبرالية الجديدة. كان ذلك كثيراً على الولايات المتحدة التي تضاعف محاولات الزعزعة بإجراء دعمٍ يتفاوت في وضوحه لمعارضةٍ داخلية، بما في ذلك أكثر أفعالها انتهاكاً للشرعية، مثل انقلابٍ يترافق باختطاف رئيس دولة، والعنف في الشوارع، والاستفزازات، بما فيها الاستفزازات المسلّحة.

أزمة الليبرالية ونافذة شافيز:

وصل شافيز إلى السلطة ضمن تركيبة معقدة يمر بها تاريخ أميركا الجنوبية، يتطلّب منه القيام بتغييراتٍ هامة. فقد مارست فنزويلا، مثلها في ذلك مثل أمريكا اللاتينية بأكملها، السياسات الليبرالية الجديدة لمدة عقود مع صندوق النقد الدولي أسفرت كما في مجمل القارة، عن هروبٍ رؤوس الأموال وتعزيزٍ الأزمة. يقال لنا اليوم إنّ شافيز يستفيد من ارتفاع سعر النفط، لكنّ التجربة أمامنا: إذا كانت الستينات قد وفّرت لفنزويلا أعلى دخلٍ للفرد في القارة بفضل انفجار أسعار النفط، حيث سمح بزيادة استهلاك الطبقة الوسطى، فإنّ مصير الفقراء لم يتحسّن. لقد اختبر الفنزويليون ارتفاع سعر النفط الذي لا يفيد منه السكّان إطلاقاً، والذي يفاقم بؤس أكثرهم عوزاً.

وصل النهب والفساد في الطبقة الحاكمة إلى مستوى فاضح، حيث كان حزبان سياسيان هما حزب العمل الديموقراطي (اجتماعي ديموقراطي) وحزب كوبي (ديموقراطي مسيحي) يتقاسمان السلطة بالتناوب. اصطدمت محاولتان متتابعتان لفرض وصفاتٍ ليبرالية جديدة صادمة بردّ فعلٍ شعبيٍّ عنيف، أولاهما في العام 1989، جرّت في ذلك الحين الأمّة بأكملها للثورة ولخسائر بشرية فادحة، والثانية في العام 1996، وهي التي سمحت بوصول شافيز إلى السلطة.

ينبغي القول إنّ أحداً لم يكن يتوقّع مستقبلاً باهراً لشافيز، فقد كان وحيداً لا تقف خلفه قوّة منظّمة (لا نقابات، ولا حزب، وكانت جميع وسائل الإعلام المخصخصة في يد المعارضة)مع نية لخلق مسارٍ ديموقراطي. كانت تجربة أمريكا اللاتينية ماثلةً للعيان، فإمّا أنّ شافيز ينوي فعلاً القيام بإصلاحاتٍ لصالح الشعب، ويعادي بذلك الليبرالية الجديدة، وسيطرة الولايات المتحدة، وسوف يصطدم بسرعة بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية والقوى المنظّمة، وإمّا أنّه سوف يخنع ويخون التزاماته.

الإصلاحات الأولى وعنف المعارضة:

لم يندلع العنف ضدّ شافيز إلاّ في العام 2001، حين أقام إصلاحاتٍ تمسّ مصالح الشركات متعددة الجنسيات ومصالح البرجوازية الطفيلية في البلاد. أراد شافيز تحسين وضع السكّان الأكثر فقراً في بلاده، وذلك بتحقيق إصلاحٍ زراعي وحضريّ يقدّم القوت للفلاّحين المحرومين من الأراضي في الريف والمسكن لسكّان مدن الصفيح. لكن ذلك لم يكن شيئاً نظراً للعنف الذي أثاره بحجّة السيطرة على النفط لصالح الشعب بأجمعه، رغم كونه مؤمّماً. كانت الشركة الوطنية للنفط PDVSA دولةً داخل الدولة. وكانت إدارتها تظهر عداءً لأيّة فكرةٍ للتنمية القومية أو الاجتماعية، مدافعةً عن سياسة الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات. وكان قادة الشركة الوطنية للنفط يشجّعون الشركات الأجنبية على العودة، ويحاولون خفض حصص منظمة الدول المصدّرة للنفط، محاولين فتح الباب لخصخصةٍ جديدة. وهكذا، فإنّ الشركة الوطنية للنفط لم تكن في واقع الأمر سوى مختبرٍ يأتمر بأوامر الإمبراطورية الأمريكية الشمالية ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIAالتي قدّمت لها عونها وفق خطةٍ معروفةٍ جيداً: فكانت توفّر مساعدةً للمعارضة الداخلية، بما في ذلك في أكثر أفعالها انتهاكاً للشرعية، انقلاب، عزل رئيسٍ في نيسان 2001، حوادث عنفٍ في الشوارع. وفي الهيئات المالية الكبيرة التي أصبحت تتزعّم الصحافة الغربية، اندلعت حملةٌ صحفية دولية تتّهم الرئيس بالرغبة في إقامة دكتاتورية شيوعية وانتهاك الحرّيات الديموقراطية، مخالفةً بذلك كلّ منطق.

ولمقاومة تصرّف أمراء النفط، أصدر شافيز قانوناً يحدّد الشراكة مع الشركات الأجنبية بـ 50%. تضاعفت الجعالات التي تدفع للدولة عن كلّ برميلٍ من النفط يستخرج على الأرض الفنزويلية. وفرض للمرة الأولى نوع من الشفافية المحاسبية والضريبية على الشركة الوطنية للنفط. ونصّ القانون على إمكانية قيام الدولة بإعادة هيكلة صناعة النفط. بادرت إدارة الشركة الوطنية للنفط إلى الهجوم، وبفضل إمكاناتٍ مادّية هائلة تحت تصرّفها، أطلقت أوّل إضرابٍ ضد الحكومة ، بالتعاون مع اتحاد مقاولي فيديكاميراس والبيروقراطية النقابية التي تتميّز بفسادها في شركة CTV. ورداً على هذا التصرف، أقال شافيز القادة الأساسيين في الشركة الوطنية للنفط– مما أدّى إلى اتخاذ قرارٍ بالانقلاب عليه في نيسان 2001.

لكن ذلك الانقلاب الذي حرّضت عليه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قد فشل. يمكن القول فإنّ المتمرّدين كانوا أدنى من الجميع، وتمثّلت الغلطة الكبيرة بالنسبة للتقاليد التي اعتادت الـ CIA تطبيقها في أمريكا اللاتينية في أنّها لم تعدم شافيز فوراً كما فعلت مع سلفادور أليندي. ولم تستفد من شخصٍ مثل بينوشيه. بل يرجّح أن تكون الـ CIA قد استخلصت من ذلك درساً، وأنّها لا تتوقّف عن إثارة الظروف الملائمة لمثل ذلك الإعدام.. فالوضع تغيّر، ومناصرو شافيز مستعدون والأمر لا يتعلّق بالوضع في العام 2001 حين حرّر قام عناصر من الجيش موالون لشافيز بتحريره بدعم مظاهرةٍ عفوية جرت في الأحياء الفقيرة، لكن في حين بقيت قوى المعارضة ممسكة بزمام وسائل الإعلام وجهاز الدولة بالغة القوّة.

 

في العام 2001، وعلى الرغم من إعادة شافيز إلى منصبه عبر حركةٍ جاءت من الأحياء الفقيرة ومن جيشٍ موالٍ له، فقد أرغم بالفعل على إعادة القادة المسرّحين إلى أعمالهم، فاستأنفوا على الفور تآمرهم ضدّه. وهكذا قام الإضراب الهائل من كانون الأول 2002 إلى شباط 2003 توقّفت صناعة النفط، وكان إغلاقاً وليس إضراباً. فالقطاعات الرقمية تحت سيطرة المدراء، فأغلق الباب أمام أيّ استثمارٍ نفطي. وجّه فشل الإضراب، الذي خرّب اقتصاد البلاد، ضربةً إلى قيادة الشركة الوطنية للنفط. بعد تحييد مدرائها المخربين، أعيد إنتاج النفط بسرعةٍ، وتمّ في جزءٍ كبير منه بفضل العمّال، وأصبحت الشركة بين يدي الأمين العام السابق لمنظمة الدول المصدّرة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
228