منار ديب منار ديب

فيلما «أخيل والسلحفاة» و«العنبر رقم 6»... وهم الفن وعزلة الثقافة

مثلما أن الكثير من الأشياء كان يعوزها المنطق في مهرجان دمشق السينمائي الأخير، كتجاهل الفيلم المغربي الكبير «كازانيغرا» في مسابقة الأفلام العربية ومنحه الجائزة البرونزية لمسابقة الأفلام الطويلة التي يفترض أنها أشمل، وذلك لمصلحة الفيلم السوري «مرة أخرى» الذي حصل على جائزة أفضل فيلم عربي، جرى تجاهل الفيلم الروسي «العنبر رقم 6» الذي حصل بطلاه على جائزة التمثيل، والفيلم الياباني «أخيل والسلحفاة» الذي لم يحصل على أية جائزة، ويبدو أن لجنة التحكيم ذات التكوين العشوائي فضلت الابتعاد عن أفلام مثقفة وذكية ذات تعقيد فني وطروحات عميقة، لمصلحة أفلام إنسانية أكثر بساطة دون أن نقلل من أهمية الفيلمين الفائزين بالجائزتين الأولى والثانية في مسابقة الأفلام الطويلة الكوري الجنوبي «الجبل الأجرد»، والإيراني «عشرون».

سبق للجمهور السوري أن شاهد فيلم «الدمى» للمخرج تاكيشي كيتانو صاحب فيلم «أخيل والسلحفاة» وقد حاز «الدمى» على الجائزة الذهبية لمهرجان دمشق في دورته الـ 13، فيما حصد فيلمه «هانا بي» 1997 جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا السينمائي العريق. يستعير «أخيل والسلحفاة» عنوانه من مثال الفيلسوف زينون عن البطل الأسطوري أخيل والسلحفاة، إذ يسابق أخيل السلحفاة بفرض أنها تتقدمه مسافة ولو قصيرة وأنهما يبدآن الحركة في وقت واحد، إن أخيل لن يدرك السلحفاة إلا إذا قطع أولاً نصف المسافة التي تفصله عنها، ولكي يقطع هذا النصف يجب أولاً أن يقطع نصف النصف، وهكذا إلى ما لا نهاية. ولما كان اجتياز اللانهاية ممتنعاً، امتنع أن يدرك أخيل السلحفاة. هذه المقولة تنطبق على بطل الفيلم الذي يسعى منذ سن مبكرة لأن يصبح فناناً، فالطفل الذي ينشأ في عائلة ميسورة ويعشق الرسم إلى درجة الهوس وعدم الالتفات إلى شيء آخر، يستمر في طموحه مع تقدمه في السن بعد إفلاس الأسرة ووفاة الوالدين، وإذا كانت أعماله الطفولية تتصف بشيء من الأصالة إلى حد أن أحد تجار اللوحات يعرضها على واحد من الأثرياء كقطعة من أعمال الفن الحديث تعود لفنان غربي سيعرف الشهرة وترتفع أسعار أعماله، فإنه مع تمكنه من حرفة الرسم مع الدراسة الأكاديمية لا يقدم شيئاً ذا قيمة، فهو بالأساس يفتقد إلى الموهبة، وإذا كان الفيلم يعرج بسخرية لاذعة على تلك الفواصل الدقيقة بين الحداثة الفنية وبين الدجل، فإنه أيضاً يبرز انعدام الشعور الإنساني لدى بطله الذي تسيطر عليه فكرة واحدة فلا يعود لديه حياة خارجها. «أخيل والسلحفاة» وإذ يتعامل مع موضوع يتعلق بالفنون البصرية فإنه يوظف ذلك لمصلحة طبيعته كفن بصري، ولأن السينما صورة فقد كان في هذا الفيلم من السينما أكثر مما ظهر في أفلام أخرى، إن البطل إذ يقلد بسطحية أعمال الفن الحديث أو يشارك في صناعة أعمال تجهيز أو يصنع أعمال تركيبية ومفاهيمية فإنه يقدم للمشاهد مادة بصرية غنية قد تكون مغلفة بالعبث أو الكوميديا، لكنها تؤشر إلى الجهد اليائس لحيازة مكانة فنية مع غياب أية قدرات إبداعية.

يبني المخرج الروسي كارين شاخنزاروف فيلمه «العنبر رقم 6» على قصة أنطون تشيخوف الشهيرة التي تحمل الاسم ذاته، ويستفيد من قصة حقيقية يتحول فيها رئيس الأطباء في مشفى للأمراض العقلية إلى مريض في المشفى نفسه، وهو إذ يصور الأحداث في المستشفى نفسه ويلتقي بمرضى حقيقيين فإنه يقترب من الفيلم التسجيلي رغم استناده إلى ما يشكل نقيضاً وهو أصل أدبي متخيل.

يقترب المخرج من عالم المرض النفسي ليبرز جوانب سوية لدى المرضى أنفسهم ويقول أحد الأطباء إن كل الناس مرضى نفسيون بشكل أو بآخر، وإذ نتعرف إلى راجين (الممثل فلاديمير إيليين) رئيس الأطباء السابق والمريض الحالي الذي توقف عن الكلام، فإننا نستعيد سيرته من خلال أحاديث الآخرين عنه خاصة صديقه الوحيد صاحب المتجر في البلدة والذي وجد فيه إنساناً يمكن الكلام معه قبل مرضه، فهما يتشاركان الهموم الثقافية والفكرية وقد صور الصديق الذي يهوى التصوير بكاميرا فيديو عدداً من سهراته مع راجين، لكن الصوت معطل في هذه الكاميرا، فنشاهد مقاطع صامتة داخل الفيلم. إضافة لهذا الصديق كان الطبيب راجين يحب أن يحاور المريض غروموف (الممثل إليكسي فيرتكوف) الذي يقبع في العنبر رقم 6 ، والذي كان معجباً بذكائه، ويوبخ غروموف راجين على نزعته الثقافية النظرية وقلة معرفته بالحياة، ويسخر من تماسكه ولا مبالاته بما يحدث في العالم، مكتفياً بقراءاته وموسيقاه وتأملاته وإدمانه للشراب. يقترح فيلم شاخنزاروف أحد أبرز المخرجين الروس اليوم ومدير أستوديو موسفيلم بنية مركبة ويمازج بين أشكال سردية متعددة بأدوات سينمائية، كما يتيح لبطليه الموهوبين إبراز قدراتهما التمثيلية ضمن الإطار المنضبط للفيلم، ناهيك عن جسامة الموضوع وعمق الطرح.

«مرة أخرى» يخطئ مهرجان دمشق السينمائي الهدف، وتزاح الاعتبارات الفنية إلى مكانة خلفية، فكما ابتكرت جوائز لإرضاء هذا الطرف أو ذاك أو تعويضه عن هفوة سابقة لم يلحظ هذا السخاء أعمالاً تتصف بالجدية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
430