الامبراطورية الأمريكية: انهيار في السماء وعلى الأرض

لاشك أن رد الفعل الأول على خبر مصرع رواد الفضاء السبعة في المكوك الفضائي الامريكي «كولومبيا» يحرك مشاعر التعاطف والأسى على ضحايا هذه الكارثة، لكنه في الوقت نفسه مناسبة لإجراء تحليل لها ولغيرها من الأحداث المأسوية الحاصلة في الولايات المتحدة، حيث يبدو جورج بوش الابن أكثر فأكثر في مظهر رئيس «غرفة طوارئ» في بلد لايزال يعتبر الدولة العظمى الأخيرة.

إن سقوط رموز الهيبة الأمريكية مثل برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك والمكوك الفضائي وكذلك ما يبديه الأمريكيون من انتظار متسم بالذعر لحصول هجمات إرهابية فظيعة إلى جانب التدهور المستمر لقيمة الدولار الأمريكي وإفلاس كبرى الشركات... كلها يمكن أن تشكل بوادر نهاية لفترة عشر سنوات من الهيمنة اللامحدودة للولايات المتحدة على العالم.

مما لاشك فيه أن الولايات المتحدة وبحكم ما راكمته خلال الحرب الباردة وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي من قدرات عسكرية ومالية وصناعية وعلمية وتقنية سيؤمن لها البقاء متفوقة على أي دولة أخرى ولأكثر من عقد من الزمن، لكن «احتياطيها» من المتانة، وكما هي في حالة المكوك «كولومبيا» له حدود ونهاية. فمن الواضح أن فترتي رئاسة بيل كلينتون مثلتا قمة تطور الولايات المتحدة كدولة فريدة لعبت لأكثر من قرن دور القاطرة والمحرك الأساسي للاقتصاد العالمي والتطور التقني-العلمي والتكوين الليبرالي للمجتمع.

لكنه وخلال الفترة الرئاسية الأولى لجورج بوش الابن شرع هذا المحرك يعاني من بعض «النكسات» وتباطأ تسارعه وبدأت مشكلة شح الوقود فيه، لكن «السائق» لايصدق ولايعير انتباهاً للإشارات والتحذيرات فهو يؤكد أنه بفضل العون والعناية الإلهية فإن القطار لن يفقد من سرعته وسيصل إلى وجهته في الوقت المحدد تماماً. فالرئيس بوش بات يشبه ذلك «السائق المؤمن المتفائل» الذي يضطر لإجراء كل الإصلاحات ومعالجة الأعطال في الطريق ومن دون توقف.

لقد كان المحلل السياسي الأمريكي المشهور (والمعروف بعدائه لروسيا) سبيغنيو بجيزينسكي يشبّه الاتحاد السوفييتي بعملاق أو مارد ذا أرجل من طين، فكان يكفيه برأيه دفعة ضعيفة ليسقط ويتناثر قطعاً ولعل هذه الدفعة تمثّلت في نفقات سباق التسلح إضافة للإصلاحات الليبرالية لغورباتشوف. وقد بات بجيزينسكي نفسه يشير في تصريحاته الأخيرة إلى أن الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أضحت الامبراطورية الأخيرة (بكل معنى الكلمة) والتي بحكم قوانين التطور العالمي ستؤول إلى المصير نفسه عاجلاً أم آجلاً، لكن السيد بجيزينسكي لم يحسب أبداً بأن تنبؤاته ستبدأ بالتحقق بهذه السرعة. إن الأحداث الأخيرة تشير إلى أن المارد الأمريكي قد يكون مصاباً هو أيضاً بهشاشة في طرفيه السفليين وأن الضربة الأولى التي أحدثت شرخاً وتصدعاً كانت الهجمات الإرهابية في أيلول 2001.

إن حدود الامبراطورية العالمية بمركزها في واشنطن لم تتوافق يوماً مع الحدود الجغرافية للولايات المتحدة، فقد كانت كندا وأوروبا الغربية واليابان وكوريا الجنوبية مع تايوان تشكل جزءاً منها، وقد لعب تكاملها الاقتصادي المدعوم بتحالفات عسكرية وإلى جانب الاشتراك في القيم دوره في منع انهيار هذه الامبراطورية إلى حين زوال صورة العدو وتحوله إلى صديق حميم. إن بداية تفكك امبراطورية واشنطن سبقت بكثير الخلافات الحالية بين أمريكا مع ألمانيا وفرنسا في موضوع الأزمة العراقية، وواشنطن مع سيؤول بخصوص بيونغ يانغ، كما أن إقامة الاتحاد الأوروربي ومن ثم قوته العسكرية للتدخل السريع في القارة القديمة تضعف بشكل كبير اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة اقتصادياً وعسكرياً.

وما الحملة الإعلانية الأمريكية الحالية والتي تحاول تقديم الدكتاتور «المتواضع» صدام حسين في هيئة تضاهي هتلر أو ستالين إنما تهدف لإيجاد بديل في عقول الأوروبيين لصورة الاتحاد السوفييتي المرعبة ومحاولة لتثبيت الامبراطورية المتفككة بواسطة حرب ناجحة وخاطفة. لكن الديمقراطيات الأوروبية «القديمة» ما زالت عصية على تأثير مثل هذا النوع من المحاولات، على كل حال لاتشارك الدولتان الأوروبيتان الأكبر وزناً اقتصادياً: فرنسا وألمانيا، الولايات المتحدة لعبتها هذه. في حين عرض عدد من دول أوروبا الشرقية خدماتها الطوعية لواشنطن لكن الأخيرة ليست بحاجة إلى جيوشها الضعيفة التدريب والإعداد في حربها القادمة. فالولايات المتحدة ستدمر العراق بقواتها الخاصة دون أي صعوبة تذكر (موضوع آخر هو مصير المنطقة بأسرها بعد ذلك) إنما ما تحتاجه أمريكا هو التضامن السياسي مع توجهها الحالي وهذا ما ترفضه تماماً كل من فرنسا وألمانيا.

إن التصدّع في العلاقة بين شاطئي الأطلسي والذي يعبّر عن ضعف التأثير السياسي الخارجي للولايات المتحدة تبعته كوارث داخلية واحدة تلو الأخرى. فقد تبين أن اقتصاد الولايات المتحدة يشبه فقاعة يتهددها الانفجار في أي لحظة، ومواطنوها يكتنفهم الرعب من الخروج إلى الشوارع لكي لايصبحوا الضحية التالية «لقناص واشنطن» أو يقضوا تحت حطام طائرة منكوبة، ولايتمكن أصحاب الأبنية الشاهقة من تأجير مكاتبهم الفخمة في حين يمتنع السكان عن إنفاق دولاراتهم التي ضعفت قيمتها الشرائية أصلاً.

بالطبع من الممكن تحويل أنظار الأمريكيين بعيداً عن هذه المخاوف بإلهائهم بحرب مظفرة سريعة في قارة أخرى، ولعل هذا هو سبب حتمية الحرب في العراق، لكن تغيب هنا ضمانات عدم تأثير نتائج هذه الحرب على الوضع الداخلي في الولايات المتحدة (غنيُّ عن ذكر تأثيرها على الوضع الدولي). فإذا أقدم العراق في دفاعه عن نفسه إلى استخدام أسلحة التدمير الشامل أو قام بتفجير منشآته النفطية فإن ذلك سينقلب سلباً على الوضع الاقتصادي الأمريكي والدولي، أما في حالة امتداد الحرب وأخذها طابعاً استنزافياً أو حرب الأنصار فإن الولايات المتحدة ستتلقى في أوج حملتها الانتخابية الرئاسية شحنات من رفات جنودها مما سيزيد  مخاوف الأمريكيين بهموم جديدة مما سينعكس على الاستقرار السياسي.

إن سقوط المكوك «كولومبيا» هو حدث مفصلي ودلالي لايقل أهمية في المصير المستقبلي للولايات المتحدة الأمريكية عن الهجمات الإرهابية في واشنطن ونيويورك أو تراجع الاقتصاد الوطني أو نشوء الخلافات مع الحلفاء الأوروبيين. وكما كان إغراق المحطة «مير» نهاية لحقبة من المنجزات السوفييتية في مجال الفضاء فإن انفجار «كولومبيا» وما تبعه من وقف للرحلات الفضائية المأهولة قد يكون بداية لنهاية مسيرة العلم الأمريكية. فعندما تصبح الحرب لها الأولوية بالنسبة للفئات الحاكمة وعندما تزيد الموازنة الدفاعية بوتائر مجنونة في بلد يمثل القوة العظمى على أي حال، وفي حين يعاني الاقتصاد من التدهور تصبح الدراسات السلمية لتأثير الفضاء على الأرض والإنسان أمراً ثانوياً، في حين يبدو الأمر مختلفاً في الجانب العسكري عندما يتعلق الأمر بمنظومة الدفاع القومي المضادة للصواريخ والذي يترك تدفق الأموال نحو وكالة ناسا مستمراً حتى الآن.

 

ولقد وعد الرئيس بوش بصرف بضعة مئات إضافية من ملايين الدولارات على مجال الفضاء في وقت شكلت فيه ميزانية الدفاع الأمريكية لعام 2004 1.399 مليار دولار أي زيادة بنسبة 4.5% عن العام الحالي وذلك مع الأخذ بالاعتبار أن نفقات الولايات المتحدة على تأمين الأمن الداخلي ومكافحة خطر الإرهاب ستزيد بنسبة 10% لتصل إلى 41.3 مليار دولار ولعل هذه الخطط ستروق للأمريكيين الذين لايزالون يبدون إعجابهم بحزم وإيمان رئيسهم فهم لايريدون تصديق أمر أفول امبراطوريتهم وهم سيرحبون بأي مظهر من مظاهر القوة التي يبديها بلدهم وفي حالتنا هنا حرب ذات نهاية «سعيدة» ومعروفة سلفاً بالنسبة لهم.