الأقصى والطائفية
الأقصى، الرمز الديني الكبير، تحيق به اليوم الأخطار أكثر من أي وقت مضى. يبدو أن الطائفية الإسرائيلية التي تضم المستوطنين المتدينين وغير المتدينين، مدعومة باليمين الإسرائيلي، تريد أن تضع يدها نهائياً على موقع الأقصى، لا بسبب أسطوري فقط يتعلق بهيكل سليمان، فالسبب ظاهري فقط، وإنما لإنهاء أي علاقة للفلسطينيين بالقدس. والمسألة طبيعية، لأن العسكرية الإسرائيلية هي قوة احتلال، والاحتلال لا يقف في عدوانه عند أية حدود. وبرهن على ذلك حينما شرد للفلسطنيين في 1948، وحينما احتل أراضي جديدة في 1967، وتابع عدوانه بعدئذ، وعندما مارس إبادة الفلسطينيين في الانتفاضتين الأولى والثانية، وحينما يستمر في الإبادة مع الهدوء الذي تلا الانتفاضتين، وحينما غزا غزة، إلخ.
والصمت العربي عن كل ذلك، وترك الفلسطينيين وحدهم في الساحة، بل والتآمر عليهم، كل ذلك أصبح قولاً مكروراً، ولا فائدة لا من طرحه، ولا من التذكير به. بل أصبح أغلب الدبلوماسيين العرب في اتصالاتهم أشبه بـ«كرسونات» المطاعم، فهم لا يباحثون وإنما ينتظرون البقشيش وطلبات الزبون؟
غير أن محنة الأقصى تجسد إلى أقصى حد مدى النفاق الطائفي. المليارات التي أنفقت، والتي تنفق على التجنيد الطائفي في كل مكان، استخدمت في تدمير أفغانستان وفي تمزيق يوغوسلافيا السابقة، وفي تدمير الجزائر وشمال أفريقيا عموماً وفي المجازر الدموية في العراق، وفي التخريب في الفلبين والصين وتايلاند، ونيجيريا والشيشان والجمهوريات الآسيوية، إلخ، وأيضاً في تحجيب الفنانات والمذيعات، وتجنيد الدعاة، وفي النشاطات المدعومة مخابراتياً في أوربا وأمريكا، إلخ، وكل ذلك، ولأن الأقصى غير موجود بالنسبة للقوى الطائفية.
أليس «الأثوب» دينياً من المجازر التي صنعت في الجزائر، ومن بؤر التوتر الطائفي في مصر، التجنيد في سبيل الأقصى، وفي سبيل محاربة الاحتلال الإسرائيلي؟ أليس «الأثوب» من مجازر الصومال، المساعدة في استقرار ذلك البلد وتطويره؟ أليس «الأثوب» أن تكون القوى الطائفية في كل مكان رسل استقرار، بدلا من أن تكون رسل فتن، وصناع مجازر؟
يتوهم الكثيرون، ربما عن حسن نية، أن القوى الطائفية يمكن أن تحارب الاحتلال والاستعمار. إنه وهم خطر. القوى الطائفية تشق المجتمع، ومن يشق المجتمع يضعفه، سواء فيما يتعلق بمحاربة الاستعمار والاحتلال، أم بتطويره.
الطائفية تحارب الناس، لا الاستعمار، ولا الاحتلال، تحارب الأمريكيين، لا مخططات الإدارة الأمريكية، وتحارب من لا يؤمن إيمانهم نفسه، ولو كان معهم في الخندق نفسه.
والطائفية تقوم بتجهيل الناس بمختلف فتاواها الصادرة أحياناً عن أنصاف جهلة أو أميين، مع أنه «لا رهبانية في الإسلام»، أي «لا مؤسسات دينية». فشبه المؤسسة الدينية وجد في أيام العباسيين، واستكمل أيام العثمانيين وبعدئذ. والتجهيل هو ضد التطور. ولو استخدم الأثرياء الطائفيون أحدث التقنيات المعاصرة، وتمتعوا بمختلف أنواع الرفاهية (الجنسية وغير الجنسية). التطور ليس التمتع بالتقنيات وغيرها، وإنما خلق البنية الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية لا نتاجها.
الوهم بإمكان أن تحارب القوى الطائفية الاحتلال أتى بشكل أقوى نتيجة الدور الذي قام به حزب الله في صد العدوان الإسرائيلي الخطر في تموز 2006 على لبنان. فعلاً، قام حزب الله بدور تاريخي كبير، لأن حرب 2006 لم تكن تهدف لاحتلال لبنان فقط، وإنما لتغيير خارطة الشرق الأوسط، وقد أنقذ حزب الله والمقاومة اللبنانية المنطقة من كارثة كبيرة. ولكن حزب الله، وهو تكتل طائفي، لا يفرض تكتله على لبنان، ويحترم الأطياف المختلفة للشعب اللبناني، وهذا أمر له أهميته. فلو كانت القوى الطائفية الأخرى تفعل ذلك، ما كانت طائفية، وإنما كانت أحد أطياف الشعب أو ذاك، وربما كانت حينئذ رسل وحدة اجتماعية، بدل أن تكون رسل تمزيق.
الطائفية صرفت عليها المليارات لتقوم بأدوار تخريبية في كل مكان. أما الفلسطينيون فتركوا وحدهم عربياً وإسلامياً، والأقصى متروك لمصيره تحت الاحتلال، وأيضاً المقدسيون.
الخطر المحيق بالأقصى، وهدم البيوت المقدسية، من الضروري أن يجعل الوطنيين في المنطقة يعيدون النظر في أمور كثيرة.