«أيتام الإمبراطورية الأمريكية» يبحثون عن تصدعات
بات القسم الأكبر من «الوصفات التحليلية الجاهزة» لليبراليين العرب مصاباً بالفشل الذريع على مدار الأعوام الماضية، ما دفعهم إلى بناء مجموعة من «خطوط الدفاع» التي كلما انهار أحدها، تقهقرت «تحليلاتهم» إلى الخط التالي بشكل مباشر.
لا بد من القول أن انتقال المذكورين آنفاً من خط دفاع إلى آخر، ليس اعترافاً ضمنياً منهم في فشل مشروعهم السياسي فحسب، بل تنازلاً واضحاً عن «احترامهم» لذاتهم ولتماسك خطابهم، حيث وصلت تحليلاتهم ومحاكماتهم العقلية إلى مستوى لا يرقَ إلا إلى مستوى المناكفات الطفولية.
في البداية، رفض هؤلاء الاعتراف بالتغيّر الجاري في موازين القوى الدولية، وشرعوا بإيهام متابعيهم أن الولايات المتحدة قاب قوسين أو أدنى من حسم الصراعات الجارية في المنطقة. وعندما وصل الأمر حداً باتت تعترف فيه الأوساط الأمريكية ذاتها بهذا التغير، اضطر هؤلاء إلى الاعتراف بذلك، وعادوا إلى خط دفاع جديد، قالوا فيه بالتعددية القطبية، وقد وصلوا اليوم إلى مرحلة باتوا مضطرين فيها للبحث عن أية «تصدعات» في القطب الصاعد عالمياً، لعلها تنفعهم في إضفاء صبغة «منطقية» مفترضة على ما يكتبونه.
هل هي تعددية قطبية؟
مثقلون بالحقائق التي لا تقبل التأويل، اضطر الليبراليون العرب إلى الاعتراف بأن الولايات المتحدة لم تعد القوة الوحيدة الموجودة على المسرح العالمي. لكن من يقرأ، متأنياً، اعترافاتهم تلك لا بد أن تصله الرسالة الكامنة فيها: «حسناً، هناك تعددية قطبية، ونقطة انتهى»، وكأن هذه التعددية هي واقع دائم، وأن المشهد الدولي القادم سيشهد نشوء عدد من القوى الدولية المتساوية من حيث القوة والنفوذ العالميين.
في الحسابات الاستراتيجية، يمكنك أن تتعامى عن الحقائق كلها، وتقول مثلاً أن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي هو 16 ترليون دولار (لنتغاضى عن مدى دقة الرقم، والوسائل المتبعة في تضخيمه)، وأن الناتج المحلي الإجمالي الروسي هو 2 ترليون دولار فقط، لتخرج باستنتاج مفاده أن هناك بون شاسع لا يزال يفصل بين «المعسكرين». لكن إلى أي مدى يمكن أن يكون هذا الكلام دقيقاً؟
أولاً: إن «الأمريكي» و«الروسي» ليسا في حلبة مصارعة معزولة عما حولها. إذ أن المواجهة بينهما، هي مواجهة باسم القوى والتحالفات الدولية التي يمثلانها. وعليه، تغدو المقارنة معقولة إن وضعنا محور «بريكس» (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا)، في مقابل دول مجموعة «السبعة الكبار» (الولايات المتحدة، كندا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان) مثلاً.
في عام 2014، بلغ الناتج المحلي الإجمالي الكلي لدول «بريكس» 30% من الناتج المحلي الإجمالي في العالم، أي إنه أقل من نظيره لدى دول «السبعة الكبار»، ووفقاً لصندوق النقد الدولي، فإن الناتج الإجمالي المحلي لدى «بريكس» هو 32.5 ترليون دولار، أما لدى «السبعة الكبار»، فهو 34.7 ترليون دولار. وبالنظر إلى أن دول «بريكس» تظهر في الغالب معدلات نمو أعلى بكثير من دول السبعة الكبار، يمكننا أن نستنتج أنه في السنتين أو الثلاثة القادمة فإن الناتج المحلي الإجمالي الكلي لـ«بريكس» سيتجاوز نظيره لدى «السبع الكبار».
أما الاحتياطات المالية (بما فيها الذهب) التي بلغت عالمياً 12.5 ترليون دولار عام 2013، فقد كانت حصة «بريكس» منها 40% (5 ترليون دولار)، فيما لم تتعد حصة «السبعة الكبار» عتبة الـ28% (3.5 ترليون دولار).
تظهر هذه الأرقام- وغيرها- أن محور «بريكس» في صعود، وأن محور «السبعة الكبار» يعيش هبوطاً واضحاً، وبالتالي فإن «التعددية القطبية» المؤقتة، لا تلغي واقع الهبوط الأمريكي والصعود المقابل. فماذا لو قلنا مثلاً: أننا «نظلم» محور «بريكس» لأن هناك العديد من الدول النامية غير ممثلة بعد في إطار المجموعة إلا أن موقفها الاستراتيجي محسوم لمصلحته؟ وماذا لو قلنا أيضاً أننا بإشارتنا إلى «السبعة الكبار» للدلالة على المحور الأمريكي نكون قد غالينا كثيراً، لا سيما أن دول المجموعة لا تلتزم بالمستوى ذاته من «الوفاء للأمريكي»، لا بل إن بعضها بات أقرب إلى «بريكس»..؟!
«التنافس على قمة الهرم»؟
يأبى الليبراليون إلا أن يواصلوا عنادهم للحقائق «حتى الرمق الأخير». فمن الملاحظ في الفترة الماضية أن هناك توجهاً متزايداً لديهم للدوران حول فكرة مفادها: «صحيح هناك قطب صاعد، لكن هذا القطب تملؤه التجاذبات، فالصين لن تسمح لروسيا أن تقود هذا المحور، حيث ترى في نفسها القوة الاقتصادية الكبرى، وهي الجديرة بقيادة هذا المحور والوصول إلى قمة الهرم».
من يتبنى هذا الكلام، ينسى أو يتناسى عمداً أنه لم يكن بالإمكان مواجهة الهيمنة الأمريكية لو كان التنافس هو السائد في العلاقات بين روسيا والصين. ولو كان هذا التنافس هو السائد لكان لزاماً علينا، منذ الآن، أن «نقرأ الفاتحة» على مشاريع الربط والتكامل التي يجهد خبراء البلدين أنفسهم في التنسيق والتخطيط لها. علينا أن ندفن مشروع الربط بين «أوراسيا» و«طريق الحرير الجديد»، وخلفها مباشرة الجهود المبذولة لتوسيع منظمة «شنغهاي» للتعاون. ولو افترضنا أن هناك مساحات مفتوحة للتنافس بين البلدين بطبيعة الأحوال، هل يمكننا إغلاق أعيننا عن حقيقة أن التقاطعات الرئيسية بينهما لا تحصى؟ وأن التقاطع الأساسي بينهما في هذه المرحلة هو تحديداً مواجهة الهيمنة الأمريكية؟
السباحة عكس المرحلة..
وعكس الوقائع
بقوة الوقائع العنيدة، تنهار خطوط دفاع الليبراليين العرب الواحد تلو الآخر. ليجدوا أنفسهم مجبرين على اللجوء إلى «فبركات تحليلية جديدة» يعوزها المنطق قبل أي شيء آخر.
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، كثر إطلاق لقب «أيتام الاتحاد السوفييتي» على بعض المفكرين والكتّاب الذين لم يستطيعوا فهم واقع المرحلة في حينه، ووجدوا أنفسهم فجأة أمام حدثٍ تاريخي وقفوا عاجزين بالمطلق عن تفسيره.
يبدو أن المرحلة التي تنطلق اليوم، بموازين القوى الجديدة، ستجبرنا على تحمّل الكثيرين من «أيتام الإمبراطورية الأمريكية»..!