بعد مظاهرات كفاية.. أسئلة وملاحظات هامة لابد منها...
لقد بات من الجلي والواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية استغلت شعار الإصلاح السياسي كأداة لابتزاز النظام المصري، لتحصل على مزيد من الدعم الأمني لإسرائيل وإجهاض المقاومة الفلسطينية، بالإضافة إلى تمرير اتفاقية «الكويز» التي تسهل تغلغل النفوذ الصهيوني في الاقتصاد المصري. وتستخدم الإدارة الأمريكية هذه الشعارات في البلاد العربية كافة كسلاح لفرض المزيد من التنازلات والتفريط في القضايا الوطنية والقومية على أنظمة الحكم العربية . لذا ينبغي التنبيه إلى أن التركيز على الإصلاح السياسي فقط لمواجهة الاستعمار يحمل في طياته مخاطر أن تكون مقدمة لتوطيد الليبرالية الموالية لأمريكا والتي ترفع شعارات الإصلاح السياسي دون سواها.
الفصل بين القضية الوطنية والإصلاح
جاء في وثائق الحركات أن : «أولى خطوات مواجهة الغزو والتدخل الأجنبي هو الإصلاح السياسي والدستوري الذي يوفر الضمانات لملاحقة وهزيمة المشروع الاستعماري». والحقيقة أن الإصلاح وحده لا يوفر مثل هذه الضمانات، إضافة إلي ذلك فإن هذا المنهج التتابعي، أي البدء بإصلاح سياسي ودستوري يمكننا من «ملاحقة المشروع الاستعماري» يتناقض مع ما ذكرته الوثائق من أن كلا القضيتين (مواجهة الاحتلال والتدخل الأجنبي، والاستبداد) سبب ونتيجة للأخرى، أي أنهما مترابطتان ولا يمكن فصلهما.
إن منهج إعطاء الأولوية لجانب من التغيّرات على حساب جانب آخر يضع الأمور في إطار يسهل توظيفه من أعدائنا كما حدث بالنسبة لتقرير التنمية البشرية الذي حجب دور الإمبريالية في إعاقة التنمية. إن المستفيد الوحيد من الفصل - ولو المؤقت - بين القضية الوطنية والإصلاح السياسي، أو الانتقاص من أولوية مواجهة الإمبريالية والصهيونية هي القوى الإمبريالية وحلفاؤها في الداخل والخارج.
قد يتبادر إلى ذهن البعض أن منهجنا هذا أمر مريح للسلطة الاستبدادية المحلية التي طالما سعت إلى صرف الانتباه نحو التهديد الخارجي لتبرير ديكتاتوريتها. ولكن من قال-غير الديكتاتوريين - إن الديمقراطية تتناقض مع مواجهة التهديد الأجنبي؟ إن الحرية والديمقراطية شرط أساسي لا غنى عنه لمواجهة العدوان الأجنبي، ثم ماالداعي أصلاً لاستخدام هذه الحجة في ظل نظام لا يحفل كثيراً بالتهديد والتدخل الأجنبي بل ويعتبر العدو الأمريكي صديقاً وحليفاً والعدو الصهيوني جاراً قادراً على المساهمة في صنع السلام ؟!.
إن أقساما من النخبة السياسية المعارضة تقوم – بوعي أو من غير وعي – بتبرئة العدو الأمريكي من مسئوليته عن توطيد الديكتاتورية في مصر حين تنظر لهذا العدو باعتباره كما لو كان مجرد نتيجة للاستبداد والديكتاتورية المحلية في بلادنا.
أيضا فإن بيانات حركة التغيير - رغم أنها تعدد (بشكل عام) «للمخاطر والتحديات الهائلة التي تحيط بأمتنا وبما يستتبع حشد الجهود لمواجهة شاملة على كل المستويات»، فإنها لم تذكر قضايا أو مجالات أو وسائل محددة لهذا الحشد كما فعلت عندما تحدثت عن الإصلاح السياسي والدستوري. والتزمت هذه البيانات الصمت - حيث لا يجوز الصمت – عن الدعوة لاتخاذ موقف يتعلق بصراع جار يتوقف عليه مستقبلنا ( بما في ذلك الديمقراطية التي نحلم بها )، أي باتخاذ موقف من المقاومة العراقية، والفلسطينية، ومشروع الشرق الأوسط الكبير.
كما تجاهلت تلك الوثائق علاقات التبعية الاقتصادية والسياسية والعسكرية للإمبريالية الأمريكية وللصهيونية، التي يتعارض الاستمرار في الخضوع لها مع استقلالنا وتطورنا والمصالح المباشرة لشعبنا.
وكان من الواجب على بيانات حركة التغيير أن تضع هذه القضايا البالغة الأهمية في إطار مختلف تماما يميزها عن إطار الإصلاح الأمريكي، الذي لا يزيد عن كونه مجرد قناع للسيطرة الاستعمارية .
إن السكوت عن هذه القضايا يلبي متطلبات التفسير الأمريكي الملفق لأزمتنا، وهو ذلك التفسير الذي يخلي مسئولية الإمبريالية والصهيونية تماما عن الأزمة، ويلبي احتياجات التوجه الأمريكي إلى إقامة نظام حكم يمارس بصورة أفضل وبوجوه غير مستهلكة سياسات الخضوع والارتباط نفسها.
أيضا فإن تبرير البعض إعطاء الأسبقية والأولوية للإصلاح السياسي بالمعنى الضيق (حرية تداول السلطة الذي يعنون به حرية تداول الحكم)، وتحديدا رفض التمديد للرئيس المصري باعتبار أن ذلك هو مفتاح التغيير والمُجَمِعَ للقوى السياسية هو حقاً أمر عجيب. وإذا نحينا جانباً - مؤقتاً - مسألة مفتاح التغيير الحقيقي فإن من يختلف حول القضايا الوطنية وأولويتها هم المطبعون مع الكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية، أو الذين لا يجدون غضاضة في التمويل الأجنبي الأمريكي والأوروبي لأنشطتهم ولا يعتبرون ذلك التمويل تدخلاً أجنبياً أو تعاملاً منهم مع أعداء بلادنا وشعبنا. أولئك هم الذين يختلفون حول أولوية القضية الوطنية.
وليس من قبيل المصادفة أن تشير صحيفة «واشنطون بوست» الأمريكية في افتتاحيتها في 18/ يناير هذا العام تحت عنوان «كفاية» - في إشارة لشعار الحركة- إلي أهمية فرض «الحرية والديمقراطية» في مصر! وقالت الصحيفة: «أملا في أن يكون مستر بوش جادا في عزمه على التدخل لفرض الديمقراطية شكلت حركات المعارضة المصرية تحالفا للمطالبة بإصلاحات أساسية: إنهاء حالة الطورائ التي تقيد النشاط السياسي، انتخاب رئيس من بين أكثر من مرشح، وإجراء تعديلات دستورية للحد من صلاحيات الرئيس القادم» .
وكان من الغريب والمؤسف حقا أن يستحسن بعض قادة الحركة إطراء هذه الصحيفة الأمريكية وهذا التدخل الصريح، وهو أمر لا يستحسنه إلا من يتصور أن ضغوط الإدارة الأمريكية قد تساعدهم في تحقيق الإصلاحات ! وفي الوقت ذاته أدلى جورج اسحق المنسق العام لحركة كفاية بحديث إلى صحيفة «ديلي ستارز» في 24 ديسمبر 2004 قال فيه «إن المعارضة الشعبية الأوكرانية خلال الانتخابات الرئاسية تركت تأثيراً كبيراً في النشطاء المصريين وآخرين في العالم العربي الذين يؤمنون أن العرب يجب أن يتمتعوا بالاحترام الديمقراطي والحقوق نفسها مثل مواطني أوكرانيا والبلاد الأخرى».
والمعروف أن النموذج الأوكراني (الثورة البرتقالية) الذي يستشهد به المنسق العام لحركة كفاية، مثله مثل النموذج الجيورجي (لثورة الزهرية) يعبر أقوى تعبير عن الاختراق الأمريكي للنخب السياسية في تلك المجتمعات، ودور المنظمات الممولة أجنبيا والمسماة منظمات المجتمع المدني، ودور رجال الرأسمالية العالمية من أمثال سورس، ويضاف إلى كل ذلك فريق عمل أمريكي كانت مهمته التخطيط الدقيق لتوظيف التذمر الشعبي والتوتر الاقتصادي والعرقي والاجتماعي لصناعة «ثورات ديمقراطية» يمكن عبرها تشديد القبضة الأمريكية على تلك البلدان.
فهل هذا هو نموذج الثورة الذي يتطلع البعض إليه في مصر؟ ألا يدعونا ذلك للتساؤل عن سبب ظهور اللون الأصفر في مظاهرة حركة كفاية يوم 12 ديسمبر العام الماضي؟ فهل كان ذلك تيمنا باللون البرتقالي في أكرانيا؟ وتحضيرا لثورة ديمقراطية «صفراء» مدفوعة الأجر تأتي بحكومة أكثر ولاء لأمريكا وأقدر على قهر الشعب لكن تحت شعارات براقة؟ أم أن ذلك كان مجرد تقليد أعمى لا غير؟
والآن هل يمكن للحركة الوطنية المصرية أن تصفق لإسقاط النظام المصري الديكتاتوري، لكي يحل محله نظام أكثر تبعية و موالاة وقدرة على تمرير المخططات الأمريكية تحت مسحة ديمقراطية؟ نظام يقمع الغضب الشعبي على إسرائيل وأمريكا؟ ويحول بين وسائل الإعلام الحكومية وبين التعبير عن ذلك الغضب؟ ألم تشكو صحيفة واشنطون بوست من وسائل الإعلام في نظام حكم مبارك؟ أم أن علينا أن نسلك الطريق الصحيح الوحيد وهو مواجهة التدخل الاستعماري والتبعية والديكتاتورية في أن واحد وبالاعتماد على شعبنا؟
وفي البيان الذي أصدرته حركة كفاية بعنوان في سبتمبر العام الماضي بعنوان «مواجهة الغزو الأمريكي الصهيوني والتدخل الأجنبي سبيله الإصلاح الشامل وتداول السلطة»، كانت صيغة البيان تتيح الفرصة أمام «النشطاء الممولين أجنبيا» للتوقيع عليه، بل اجتماع بعضهم مع وزير الخارجية الأمريكية في فندق سميراميس بالقاهرة.
إنهم أولئك الذين نصبوا أنفسهم ممثلين لما يسمى بالمجتمع المدني المصري الذين شاركوا في فعاليات منتدى الجمعيات الأهلية الموازي والشريك لمنتدى المستقبل، أي ( رئاسة مشروع الشرق الأوسط الكبير) في المغرب في ديسمبر الماضي، وكانت مشاركتهم جنبا إلي جنب مع وفود الحكومة المصرية والحكومات العربية وفقا للمخطط الذي وضعته للمشروع قمة الثمانية الكبار في «سي إيلاند» بولاية جيورجيا الأمريكية في يونيو العام الماضي. إنهم أيضا أولئك الذين يسارعون بإرسال برقيات التهنئة بالانتخابات العراقية بدلا من فضحها وتعرية أهدافها الإجرامية، وهم أيضا أولئك الذين يعتبرون عمليات المقاومة الاستشهادية خرقا لحقوق الإنسان .
والسؤال الآن هو: كيف يستقيم لعمل عنوانه «مواجهة الغزو الأجنبي» أن يشمل من يقبلون التدخل الأجنبي، سواء عن طريق التمويل الأجنبي أو غيره من أشكال الارتباط والتعاون التي تشوه محتوى العمل الوطني والأهلي ؟، أم أن توسيع المعارضة أصبح هدفا في حد ذاته دون أية قيود مبدئية؟
هناك سؤال آخر: هل يصلح نضال الشعب المصري فقط لانتزاع الحرية والديمقراطية بينما لا يصلح لمقاومة الإمبريالية والصهيونية؟! أم أن حركة التغيير هذه ستعتمد على شيء آخر غير الحركة الشعبية للقضاء على الديكتاتورية؟!. لقد غاب عن وثائق الحركة أن أي حكم ديمقراطي (وهو ما تسعى إليه الحركة) لابد أن يضع في حسابه مصالح الشعب، أي أن يضع في حسابه القضية الوطنية في المقام الأول .
أما اختزال التغيير في مجرد تعدد المرشحين للرئاسة، وعدد مرات الرئاسة وسلطات الرئيس، فانه يتيح الفرصة لمواصلة النظام الديكتاتوري لوجوده متخفيا بمظهر ديمقراطي زائف، بدلا من نظام ديكتاتوري قديم تابع فقد صلاحيته. إن الديمقراطية لا وجود لها في أية دولة تفقد قرارها الوطني المستقل.
أما عن شعار حركة كفاية المستخدم وهو: «لا للتمديد.. لا للتوريث.. كفاية» فقد أصبح مجرد ستار لتمرير إصلاح ليبرالي جديد يؤكد سلطة رأس المال الكبير المرتبط بالاستعمار، ويجعلها وطيدة، في محاولة لمنع زعزعة هذه السلطة، فقد خلت الدعوة للإصلاح من أية مطالب أو إشارة حقيقية إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الضرورية والعاجلة للطبقات الشعبية مما يجعل الإصلاح قاصرا على تداول الحكم لتفعيل السياسيات الحالية للدولة.
وقد حسب من صاغوا تلك الوثائق وخاصة اليساريين منهم أنهم تخلصوا من هذا المنزلق الليبرالي الجديد بعبارة «إنهاء احتكار الثروة»، لكن هذه العبارة لا تعدو كونها مجرد إنشاء لفظي لا يحمل أي مدلول عملي، وهي تذكرنا، مع اقترانها بعبارة أخرى في البيان عن «إنهاء احتكار السلطة»، بثنائية اقتسام السلطة والثروة في جنوب السودان ولدى متمردي دارفور. فهل كفت اللغة العربية عن تزويدنا بالكلمات المعبرة عما نتحدث عنه فنستدعي - دون فطنه - نموذج اتفاقية إنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان في معرض الدعوة إلى التغيير والإصلاح في مصر؟
ولقد دعت حركة كفاية إلى «الإصلاح الشامل»، لكن ذلك الإصلاح الشامل الذي يشمل بالتعريف كل القضايا الأساسية : الوطنية والقومية والسياسية والاقتصادية، قد اختزل في بيانات الحركة إلى قضية الحريات وحدها وقضية تداول الحكم .
أما الخروج مما سمي «الأزمة الطاحنة والشاملة» في مصر، فقد اختزل إلى إصلاح سياسي ينهي احتكار الحزب الحاكم للسلطة وحالة الطوارئ ويسمح بالحريات العامة، وانتخاب الرئيس من بين أكثر من مرشح .
فهل هذه هي سمات «الأزمة الطاحنة الشاملة»؟ لقد اختزلت هذه الأزمة بأبعادها المختلفة في «ديكتاتورية الحكم» ثم اختزلت هذه الديكتاتورية ذاتها في مجرد تداول الحكم من عدمه! وهذه هي مبادئ الليبراليين الذين يقدسون اقتصاد السوق وسلطة وسلطان رأس المال، مبادئ الليبراليين الجدد الذين تخلوا عن قضايا الاستقلال الوطني، خلافا لليبرالية الوطنية المصرية في ثورة 1919 وشعارها الشهير«الاستقلال والدستور».