الاتفاقات الجزئية وخطر تقسيم السودان
اتفاق أبوجا الذي وقعته الحكومة السودانية مطلع شهر أيار/مايو الجاري مع أحد أجنحة المتمردين في إقليم دارفور، هو اتفاق جزئي رأت فيه قوى المعارضة السودانية وكثير من المراقبين، "اتفاقا شكليا" تم تحت ضغط القوى الدولية وضغط الولايات المتحدة الأميركية بشكل أساسي، ولا يشكل خطوة حقيقية لوقف الحرب في إقليم دارفور بل ربما يشكل خطوة أخرى تشجع فرقا أخرى من المتمردين، وتعمق التوجهات الجهوية والقبلية والعرقية في البلاد بما يؤكد على الخطر الداهم المتمثل في مخطط تقسيم السودان أو تفتيته في نهاية الأمر.
فاتفاق أبوجا الذي جاء تقريبا بعد سنة ونصف من توقيع اتفاق نيفاشا، الخاص بجنوب السودان والذي وقعته الحكومة السودانية مع المتمردين هناك بقيادة جون قرنق، سار على الخطى نفسها. وليس ذلك غريبا لأن من كان وراء توقيع الأول كان وراء توقيع الثاني، ونعني به الولايات المتحدة الأميركية، بالرغم من أن هناك من يقول إن فروقا بين الوضع في الجنوب والوضع في دارفور من حيث التركيبة السكانية والجهات المتمردة في كل منهما. وهنا لا بد من التأكيد على أن الولايات المتحدة غير معنية بإحلال السلام في السودان أو المحافظة على وحدته أو مصالح شعبه، بل كل ما يعنيها التحكم بالسودان ومنه بالقارة الإفريقية كلها، وهو ما تعتقد الإدارة الأميركية الحالية أنه سيتحقق من خلال تقسيم السودان وتفتيته إلى دويلات صغيرة ضعيفة قابلة للسيطرة الأميركية عليها جميعا.
ويتوقع كثيرون أن لا يحمل الاتفاق الجزئي الجديد السلام إلى دارفور، ولا يتوقعون تطبيقه بل يتوقعون له أن ينفجر بسرعة ويعود الاقتتال إلى الإقليم، لأنه لم يمثل رغبة كل سكانه ولم يحقق مطالبهم كما أنه لم يمثل إرادة وطنية لكل السودانيين. ومن هنا وقفت كل أطراف وقوى المعارضة السودانية ضده، ولم يوقع عليه إلا جناح من حركة واحدة من حركات التمرد في الإقليم.
ومثلما تتهم المعارضة السودانية حكومة جبهة الإنقاذ بالمسؤولية عن ما وصلت إليه أوضاع السودان، تتهمها بأن اتفاق نيفاشا بشأن الجنوب لم يكن، في نظر الحكومة، أكثر من وسيلة تحفظ للنظام البقاء والاستمرار في الحكم ست سنوات أخرى (إلى حين إجراء الاستفتاء على مصير الجنوب)، ومثله كان سبب التوقيع على اتفاق أبوجا وكمحاولة أخرى للإبقاء على النظام، دونما اهتمام بما تحمله مثل هذه الاتفاقات الجزئية من أخطار على مستقبل السودان ومصيره. والحقيقة هي أنه لا بد أن تلفت انتباه أي مراقب لما يجري في السودان المواقف المرتبكة للحكومة السودانية التي دائما تبدأ من نقطة عالية من الرفض والتحدي ثم تنتهي إلى أسفل درجات سلم القبول بما كانت ترفضه. مثل هذه المواقف رأيناها في سلوك الحكومة من السياسات والمواقف الأميركية من السودان عموما، كما رأيناها في موقف الحكومة من مسألة القوات الدولية، ودائما كانت الحكومة تبدأ بالرفض الكامل وتنتهي بالقبول الكامل مما يعطي اتهام المعارضة لها الكثير من المصداقية، دون أن ينفي عن هذه المعارضة عدم ارتكابها الكثير من الأخطاء في سلوكها تجاه الحكومة.
ويرى البعض أن المخططات والأهداف الأميركية على وجه الخصوص، تختبئ في طيات اتفاق أبوجا كما اختبأت في طيات اتفاق نيفاشا. ففي اتفاق الجنوب تمثل هذا المخطط في ما تضمنه الاتفاق من بنود تجعل من الجنوب دولة مستقلة تنتظر الإعلان عنها بعد ست سنوات، بينما عكس اتفاق أبوجا رغبة بأن تقوم في إقليم دارفور دولة مستقلة مرتبطة بروابط ضعيفة مع الخرطوم. ومن المتوقع أن تتبع الولايات المتحدة الأميركية الاستراتيجية نفسها في مناطق أخرى من السودان. وكلا الاتفاقين خطوة على طريق التقسيم.
المشكلة أنه في كل مرة يتم فيها توقيع اتفاق جزئي جديد تدعي حكومة الخرطوم أنها تفعل ذلك حقنا لدماء أبناء الوطن الواحد ولإحلال السلام بينهم ليعيشوا أمنين في وطن آمن، بينما تظهر الأحداث اللاحقة أن همها السلطة ولذلك ترضخ لما تريده الولايات المتحدة من حلول. ويقول خصوم الحكومة إنها لو كانت صادقة في ما تدعيه لتوصلت إلى الاتفاقات نفسها دون تدخلات وضغوطات خارجية، ولأنها لم تحقق ذلك وحدها فإما أنها لم تكن تريد التوصل إلى اتفاق أو أن هذه الاتفاقات لم تكن لمصلحة السودان، وهو ما يؤكد من جديد أنها وافقت عليها استجابة للضغوط الخارجية والأميركية.
لقد وصل القلق مما وصلت إليه أوضاع السودان إلى درجة جعلت بعض القوى السياسية السودانية تحذر مما سمته (صوملة السودان)، وذلك بسبب تفاقم النزاعات الجهوية والقبلية وتراجع المفاهيم والمطالب القومية لدى المواطنين. وتشير التقارير الصحفية إلى أن النزاع الجهوي أدى إلى ظهور قوى قبلية تواجه بعضها باسم حماية العنصر أو الأرض،غربي السودان في إقليم دارفور وشرقي السودان يقاتل القوات الحكومية، فضلا عن ظهور بوادر أزمة جديدة تقف وراءها بعض القبائل في الشمال والوسط.
ولعل ما يلفت النظر هو هذا الغياب العربي عما يجري في السودان. لقد راقبت مصر مثلا ما انتهت إليه الأمور، وهي تعرف مخاطر هذه الاتفاقات على وحدة السودان وتعرف ما سيجرها عليها تقسيم السودان أو تفتيته. مع ذلك، رحبت مصر باتفاق نيفاشا، كما رحبت باتفاق أبوجا، في وقت يرى فيه كثيرون من أبناء السودان أن ما يتم لا يستحق أي ترحيب.