بابكر عباس الأمين بابكر عباس الأمين

الإسلاميون: ردَّة الثورة المصرية

يتوجس المرء خيفةً من حالة الاحتقان والاستقطاب الداخلي التي تعاني منها مصر الثورة بسبب هستيريا الغرور، والزهو، والاستعلاء، وتعظيم الذات التي انتابت التيارات الإسلامية؛ علماً بأن جماعة الإخوان المسلمين كانت في الخفاء حتى مرحلة متقدمة من الثورة، بينما أفتى شيوخ السلفية بعدم الخروج على نظام مبارك واعتبروا ثورة يناير فتنة! وأهم مظاهر تلك الحالة هو الخلاف الذي يدور حول المبادئ فوق الدستورية، والمبادئ الحاكمة للدستور، التي اتفق عليها ممثلو القوى والأحزاب السياسية، وعدد من مرشحي الرئاسة، ورفضتها تلك التيارات.

على الأخص، أثارت الجماعات الإسلامية جدلاً حول المبدأ فوق الدستوري المقترح بمدنية الدولة، إذ أعلنت رفضها له، بحجة أنه قد يُفسر بالعلمانية ويعمل على تهميش التيار الإسلامي؛ كأن الإسلاميين لا يحق لهم ممارسة نشاطهم تحت ظل دولة مدنية، ولكأنَّ المدنية صنو العلمانية. والحل، كما اقترحت تلك الجماعات، أن يتم إضافة أن مصر دولة مدنية وليست علمانية للوثيقة. بيد أن مبادئ المدنية لا تحتوي على إشارة للعلمانية، أو تهميش للإسلاميين، كما زعمت تلك التيارات. وفي المقابل، فإن النص على أن مصر دولة غير علمانية ليس تهميشاً للتيار العلماني- القدح المعلي في الثورة - بل إقصاءً صريحاً له، ويحمل في طياته احتمال سن تشريع ينص على حظره، إن آل الحكم للإسلاميين. ولعل هذا هو مخططهم كما يتضح من إصرارهم على نفي العلمانية، لأن مبادئ الدولة المدنية، وعدم تطابقها مع العلمانية، ليست من الأمور التي يجهلونها.

وحسب وجهة نظر صفوت عبد الغني، قيادي الجماعة الإسلامية، إن مبادئ المواطنة، والتعددية، والحريات العامة لا يوجد خلاف عليها، مادامت تدور في فلك أحكام الشريعة وإسلامية الدولة. غني عن البيان أن شرط «ما دامت» هو سيف مسلط يمكن بموجبه، مثلاً، وصف ارتداء المرأة للبنطال بأنه لا يندرج في الحريات التي تدور في فلك الشريعة، وبالتالي حظره. ناهيك عن أبجديات كحظر النشاط الشيوعي إذ بدأت حملة تكفيره من الآن تطفح كالقاذورات في منابر إعلامية، منها وصف رضا عكاشة للماركسيين في «اللواء الإسلامي» بأنهم «خطر على دين الله» (1682011). هؤلاء المهووسون يمضغون عبارات مثل أحكام الشريعة، يكاد المرء أن يتقيأ عند سماعها، ولو تركوا المماحكة وضباب العموميات، ووضحوا لنا تعريف الشريعة فقط لأزالوا جهلنا وشكوكنا، دع عنك رؤيتهم لعلاج التدهور الاقتصادي، وكيفية تسديد القروض للبنك الدولي، عملاً بأحكام الشريعة.

وقد سبق الجدل حول الدولة المدنية أمر آخر كشف عن الطبيعة المخادعة للتيار الإسلامي؛ هو المسيرة المليونية حين كان اتفق مع أكثر من ثلاثين حزباً وقوى سياسية والائتلافات الشبابية بالتنسيق لرفع مطالب توفيقية مشتركة وعدم الخوض في المسائل الخلافية. فوجئت تلك التنظيمات بشعارات إقصائية بينها «لا شرقية ولا غربية.. إسلامية مية المية»، وهو شعار استنفد مفعوله بنهاية الحرب الباردة، وآخر «الشعب يريد تطبيق شرع الله»؛ كأن الثمانين مليون قد فوضوهم برفع هذا الشعار، الذي ظل السودانيون يسمعونه من أخوانهم منذ أكثر من عقدين ولم تتحقق منه سوى دغمسة. أما حقوق النصارى، فقد أكدوا عليها في شعار «يا نصراني... يا نصراني، النبي عليك وصاني»، لا ندري متى أوصاهم النبي الكريم، يريدون تنصيب أنفسهم أوصياء على القبط، كأهل ذمة. هؤلاء إما يجهلون الذي حدث في الدولة التي تجاورهم جنوباً، بسبب الاستعلاء الديني، أو أنهم يعلمون ولا يعنيهم ما قد يحدثه مثله في وطنهم.

على الصعيد الإعلامي، لجأت التيارات الإسلامية في خبث لحرب الإشاعات، وتحقير الخصوم السياسيين، وإلصاق التهم بهم حين وصف عصام عبد الماجد، قيادي الجماعة الإسلامية، منتسبي حركتي «كفاية» و«6 أبريل» بأنهم عملاء وخونة يتلقون أموالاً من الخارج. كما اُنشئت مجموعة خاصة في «الفيس بوك» متخصصة في شتيمة وسب التنظيمات الليبرالية، أُطلق عليها «عملاء وخونة من أجل المال والسلطة»، مع أن تنظيم الإخوان المسلمين- حسب الكاتب مارك كورتيس- كان له قصب السبق في تلقي الأموال من المخابرات البريطانية لزعزعة النظام الناصري، رغم أنه التنظيم الوحيد الذي استثناه ناصر من قانون حظر الأحزاب لعام 1953. أما بالنسبة للعمالة، فقد كانوا أهل سابقة فيها إذ تلقي تنظيمهم إخطاراً مسبقاً بالعدوان البريطاني على مصر عام 1956، لإشراكهم في الحكم بعد الإطاحة بناصر. وهذه المعلومات استنتاجاً، أو افتراءاً من كورتيس، إنما مصدرها وثائق رسمية أُميط عنها اللثام بعد انقضاء العدة القانونية. «ذي غارديان» (572010).

لم تقتصر الحملة على الليبراليين والعلمانيين فقط، بل امتدت لتشمل تيار إسلامي متسامح هو الصوفية، حين اتهم خالد سعيد، قيادي الجبهة السلفية، الشيخ علاء الدين أبو العزائم شيخ الطريقة العزمية بالتشيع والتردد على إيران. والحاصل أن حملة السلفيين على الصوفية مبعثها سلوكها الراقي كتسامحها مع القبط والتيارات الليبرالية. ذلك ما دفع سلفي هو موسى حال أن يبلغ الشطط في وصفهم: «الأغرب هو تنظيم مسيرة الصوفية لمسيرة انضمت إليها أحزاب ليبرالية، وهذا اتجاه خطأ من الصوفية يفتقر للحنكة السياسية والأخلاق الإسلامية»، (عقيدتي 17820011). ولنتخيل رأي السلفية في الشيوعية والناصرية لجماعة ترى أن الصوفية خرجت من أخلاق المسلمين. الذي ينذر بكارثة هو أن التيار السفلي عريض ولا يستهان به، وأنه أكثر غلواً وفاشية من الإخوان المسلمين، وان نموذجه للدولة الإسلامية هو السعودية، كما وضح من رفع الإعلام السعودية في المسيرة المليونية.

هنالك عامل آخر في ردة الثورة المصرية هو «فقهاء الفضائيات». على سبيل المثال، ذكر شيخ اسمه محمد حسن، ذهنه مشدود بسياج منيع للقرن السابع الميلادي، أنه بحسب إجماع الفقهاء يرفض ترشيح امرأة أو قبطي لرئاسة الجمهورية. ثم أضاف سؤالاً ساذجاً: هل تقبل إيطاليا أن يكون الرئيس مسلماً؟ مثل هذا الشيخ مكانه وادي سوات أو قندهار أو تورا بورا، ليس مصر التي نعرف. ولسنا بصدد ذكر أمر بدهي أن النصارى كأقلية لن يحكموا، بيد أن مثل هذا القول يؤذيهم ويحدث شرخاً في الوحدة الوطنية. سؤال الشيخ هذا سبق أن سأله المرحوم فيليب غبوش، بصورة معكوسة لحسن الترابي إبان مناقشة الدستور الإسلامي عام 1968: هل يجوز للمسيحي أن يكون رئيساً حسب هذا الدستور؟ فأجابه سيئ الذكر بالنفي، وقصة الآثار التي ترتبت على هذه  الإجابة معروفة.

المشهد السياسي في مصر، وعلاقة الإسلاميين بالمجلس العسكري، شبيهان إلي حد معقول بالحال الذي آلت له الأمور في السودان بعد انتفاضة أبريل 1985، حين احتوت الجبهة الإسلامية الثورة وأفرغتها من شعاراتها ومحتواها، كما أنها تمكنت من تمرير مخططاتها كقانون انتخابات مفصَّل على هواها. إضافة إلي أن النظام السياسي المنتخب الذي أفرزته لم يكن ممثلاً لجماهير الانتفاضة، بل كان ممثلاً لقوى الردة من إسلاميين ومايويين اُنتخبوا للبرلمان تحت راية الحزبين الكبيرين. والحال أن ما يدور في مصر هو سرقة لثورتها العظيمة، التي كانت شرارتها ووقودها شباب التحرير الليبرالي، بينما تشير المعطيات إلى طغيان التيار الإسلامي بما يملك من ثروة ومقدرة تنظيمية تمكنه من اكتساح الانتخابات. سيساعده في ذلك، دون شك، ضعف الوفد كحزب وسط، واستغلال الدين وسط البسطاء،  واستغلال غياب الممارسة الديمقراطية تاريخياً، وما نتج عنها من جهل بقواعد اللعبة الديمقراطية. 

المعضلة هي أنه في حالة تمكن الإسلاميين من الحكم، تراجعت حرية الفكر والمرأة، وحقوق المسيحيين، واستبدوا ببقية المدارس السياسية. وإن أصبحوا معارضة، فإن لديهم الإمكانيات والإرث على زعزعة استقرار النظام المنتخب. الجانب الأهم بالنسبة للملايين من المستضعفين كالعدالة الاجتماعية، وإيجاد فرص عمل، وتخفيف أعباء المعيشة، عصيٌّ على التحقيق بصرف النظر عن توجه الحكومة القادمة لظروف هي هروب رأس المال، وقطع الدول العربية النفطية للعون المالي. وفي حالة فوز الإسلاميين ستزداد المعاناة الاقتصادية(..) وبتدهور السياحة، إلا أنها ستصبح إبتلاءاً يستوجب الصبر وشد البطون. وإن شكَّلوا المعارضة، سيستغلونها كورقة ضغط لضعضعة الحكومة بحشد الشارع وتجييش الفقراء، علاوة على مقدرتهم على اللجوء للعنف الراسخ في تاريخهم.

وأخيراً، نتمنى ألا تؤول الأوضاع في الشقيقة مصر كما آلت إليه في السودان، مثلما نأمل أن لا يأتِي  زمن على أشقائنا المصريين يتوقون فيه لعهد الطاغية المعزول.