عملية إيلات والخسائر «الإسرائيلية» الإستراتيجية
حاولت «إسرائيل» أن تتجنب الخسائر التي سببها لها سقوط حسني مبارك في مصر، وهو كما كانت تسميه «القلعة الإستراتيجية» التي استندت إليها مدة 30 عاماً من أجل تثبيت وجودها في المنطقة، وتوسيع نفوذها وفضائها الحيوي في أكثر من اتجاه، وتحقيق نجاح كاد يقضي على المسألة الفلسطينية وتصفيتها لمصلحة «إسرائيل»
أقول كاد يقضي، لأن المانع الوحيد الذي حال دون ذلك هو قيام «منظومة المقاومة» التي منعت ذلك عبر مواجهاتها العسكرية والسياسية، الأمر الذي عرَّض المنظومة هذه مجتمعة ومتفرقة لأشرس هجوم غربي ضد مكوناتها الأساسية الأربعة من الأنظمة والتنظيمات، ولكن المنظومة صمدت وأعادت «إسرائيل» إلى دائرة القلق على المستقبل والمصير، فضلاً عن إنتاج الخوف على الأمن الذي ترى «إسرائيل» أنه خط احمر لن يمكن أحداً من المس به.
وفي معرض سعيها إلى تفادي ما أمكن من الخسارة الإستراتيجية، اتجهت منذ اللحظات الأولى إلى التهويل، لوضع حاجز دون تمدد مفاعيل سقوط مبارك إلى العلاقات المباشرة معها، ثم أنها منت النفس بالاستفادة من هجومها مع الغرب ضد منظومة المقاومة لتعوِّض الخسارة. وهو هجوم اشتدت الحاجة إليه بعد مبارك، وتعددت وجوهه حيث جرى ابتداع وتلفيق الملفات ضد أطراف المنظومة، (إرهاب وتخريب في سورية ومحكمة تلفيقية دولية في لبنان وملف نووي لإيران وحصار غزة) وهي عناوين شاؤوها محاور للهجوم خاصة بعد العام 2006-عام هزيمة «إسرائيل» على يد المقاومة في لبنان- وظنت «إسرائيل» ومعها المنظومة الغربية أن هذا الهجوم المركَّب والمتعدد سيؤدي إلى إشغال منظومة المقاومة في مرحلة أولى، فيصرفها عن العمل، وفي مرحلة ثانية يمكِّن للغرب التخلص من هذه المقاومات المتعددة الوجوه تباعا فترتاح «إسرائيل». ولهذا كانت الجهود الغربية والصهيونية منصبة في مصر على حصر التغيير بالشأن الداخلي من دون المس بالعلاقات مع «إسرائيل» ومن دون التعرض «للكنز الاستراتيجي لـ«إسرائيل»ـ اتفاقية كامب ديفيد»ـ كما يراها باراك، وقد ارتاحت «إسرائيل» في مطلع الحراك المصري إلى عدم تعرض المصريين لسفارتها في القاهرة، كما وإلى مواقف مصرية وازنة رسمية ونخبوية تتمسك بالاتفاقية المذكورة، مبررة ذلك بأسباب شتى، واعدة بالحد من الخسائر التي تحدثها بتصحيح التفسير والتطبيق الذي أساء إليه حسني مبارك.
لكن المقاومة وفي لحظة قاتلة فرضت واقعاً فاجأ الجميع، ووضعهم أمام الاختبار القاسي عبر عملية إيلات التي جاءت بدلالاتها الإستراتيجية متجاوزة مفاعيلها الميدانيةـ رغم جسامتهاـ حيث أظهرت:
- أن الأمن «الإسرائيلي» الداخلي حتى من غير اللجوء إلى صواريخ تطلق عبر حدود فلسطين المحتلة، هو أمن هش مكشوف، وأن تخطيطاً مناسباً يمكن من اختراقه اختراقاً يؤدي إلى إنتاج القلق وانهيار الوهم «الإسرائيلي» بالأمن المستتب. وإذا عطف على العملية ما استتبع من إطلاق صواريخ فشلت «إسرائيل» في اعتراضها، تكون العملية وتداعياتها الميدانية قد تسببت في افتضاح زيف الإجراءات الحمائية «الإسرائيلية» ومنظومات الدفاع الصاروخي، من قبة فولاذية، إلى معطف الريح، إلى مقلاع داوود، وأظهرت أن 5 سنوات على حرب تموز لم تغير من حجم الأخطار التي ستواجهها الجبهة الداخلية «الإسرائيلية» في الحرب المقبلة التي تريدها «إسرائيل»، ولكنها عاجزة عن تحمل أعبائها كما يبدو.
- أن مصر ما بعد مبارك ليست ذاتها التي كانت معه، وان الشعب المصري الذي رفض التطبيع خلال 30 عاماً، لن يقبل بالاستمرار في سياسة السكوت على جرائم العدو وانتهاكه للسيادة المصرية بعد أن تخلص من أغلال الرئيس- الصديق الأهم استراتيجيا لـ«إسرائيل»، وهذا ما يقلق «إسرائيل» بحيث يمكن القول إن أول خطوة متوقعة الآن من السلطات الرسمية المصرية– حتى لو تأخرت بعض الوقت- وفي مرحلة ما قبل طرح مراجعة الاتفاقية، أن يعاد إلى تطبيق الاتفاقية بتفسير موضوعي يحترم السيادة لتي نصت عليها نظرياً وأسقطها مبارك بالممارسة العملية، على أن يلي ذلك، وكما ينتظر مع المتغيرات القائمة، مراجعة للاتفاقية قد لا تؤدي إلى إسقاطها في المدى المنظور، لكنها على الأقل قد تتجه نحو إحداث توازن في النص والتطبيق. وإذا كان من السابق لأوانه القول بخطورة الجبهة الجنوبية على «إسرائيل»، فإن العملية ستجبر «إسرائيل» على الاهتمام بها وبذل جهد لم يكن مطلوبا سابقا.ً
- أن «منظومة المقاومة» لن تتراجع عن هدفها الأساس وان مواجهتها للهجوم الغربي العدواني عليها لم ولن تثنيها عن المقاومة، رغم كل ما لُفِّقَ وما نُفِّذَ هنا أو هناك ضدها من مكائد ومؤامرات، وأنها مستمرة في عملها الرئيسي في ملاحقة العدو وإفهامه بأن اغتصاب الحقوق لن يصاحبه أمن أو استقرار.
- أن اختيار إيلات لتكون ميداناً لعملية المقاومة، فيه من الرسائل فوق ما يستطيع العدو احتمال آثاره على اقتصاده وخصوصاً سياحته، إذ بعد أن كان يفاخر بمستوى الأمن هناك ويدعو الأجانب إليها والابتعاد عن شرم الشيخ المصرية التي فقدت أمنها بادعائه، وجد أمنها ينهار بسرعة قياسية.
- أظهرت حجم القيود التي تغل يد «إسرائيل» عن مهاجمة قطاع غزة، وأظهرت أن القطاع بات على درجة متقدمة من الحصانة الدفاعية.
لقد أدت عملية إيلات إلى انهيار آمال «إسرائيلية» كبيرة، وشكلت رداً مقاوماً تعدت مفاعيله الشأن العملاني رغم أهميته، لتلحق بـ«إسرائيل» الخسائر الإستراتيجية الأهم، إذ أنها بعد أن فضحت وهن الأمن «الإسرائيلي» بمنظوماتها الصاروخية، أعطت دفعاً للوطنيين في مصر لاستكمال التحرك باتجاه التخلص من تركة حسني مبارك الصهيونية، وهي وإن كانت لن تأتي بمصر الآن إلى منظومة المقاومة، لكن يكفيها الشأن المعنوي لجهة التسبب بإنزال العلم «الإسرائيلي» عن مبنى في القاهرة اتخذ سفارة لـ«إسرائيل»، ورفعها طلباً من «إسرائيل» الاعتذار، كما خرجت أصوات مطالبة بإلغاء اتفاقية كمب ديفيد، وذكّرت من يريد أن ينسى بأن «إسرائيل» الصهيونية هي العدو، وان عداوتها تحجب كل ما يحاول الغرب اختلاقه من عداوات لدى خصومها في ما بينهم.
• عن «البناء»، 24 آب 2011