حتى لا ينجح المجرمون
الجهود كلها موجهة الآن لتسوية الصراع العربي الإمبريالي الصهيوني بما يكرس تثبيت وجود الكيان الصهيوني في المنطقة نهائياً.
إن هذا الكيان كتجسيد للصهيونية السياسية التي كانت الابن البكر للامبريالية تخلقت نطفتها الأولى عقب نجاح الثورة البرجوازية في فرنسا أواخر القرن الثامن عشر بالوعد الذي قطعه نابليون بونابرت أثناء حصاره الفاشل لمدينة عكا الفلسطينية باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. ثم بدأ المشروع في التبلور واكتملت صياغته أواخر القرن التاسع عشر، بدايات تحول الرأسمالية الى مرحلة الامبريالية. وبدأ الإعداد الجاد لتنفيذه أوائل القرن العشرين. ثم تحقق على أرض الواقع عام 1948.
كان الهدف هو زرع الغرب الرأسمالي الاستعماري بشكل دائم في الشرق العربي لتكريس هيمنته على المنطقة ونهبها والحيلولة دون نجاح أي مشروع نهضوي فيها.
في هذا السياق عملت الامبريالية والكيان الصهيوني (بطبيعته الوظيفية) على ضرب قوى التحرر الوطني لتصفيتها عبر الحروب العدوانية المتكررة، إلى جانب تخليق كيانات وطبقات تابعة في المنطقة تقوم بالدور الوظيفي نفسه، غير أن هذه الكيانات والطبقات، ونتيجة لتخلفها وهشاشتها وضعف بل وانعدام الأسس الموضوعية لقيامها، المتمثلة في التطور الطبيعي المستقل (ولو نسبياً)، واحتدام الصراع الوطني والاجتماعي المتصاعد، فقد نشأت حاجة ملحة لحمايتها، أضافت مهمة جديدة للكيان الصهيوني.
هذا هو سبب تلك اللهفة التي لا سابق لها لتسوية الصراع على أساس الاستسلام الكامل للعدو. وعلى هذا الطريق سار العمل على محاور عدة من أبرزها:
دعم العدو الصهيوني بشكل مباشر وغير مباشر (إمبريالياً وبواسطة الرجعية العربية). وتمثل ذلك في الحرب التي لم تهدأ ضد قوى التحرر والتقدم العربية. وإذا كانت الحرب الامبريالية صريحة في كل لحظة، فإن حرب الرجعية العربية جمعت بين العلنية والسرية، وجسدت السعودية منذ خمسينيات القرن الماضي ضد مصر في الأساس رأس الحربة في هذه الحرب (مواقفها ضد الوحدة المصرية السورية التي مثلت أخطر تحدٍ للامبريالية والكيان الصهيوني، ثم ضد ثورة اليمن والدور المصري الداعم لها، وكذا العداء المطلق لنهج التنمية المستقلة والتأميم وإرساء قدر كبير من الحقوق الاجتماعية الخ...)، وعدم المشاركة في أية حرب ضد العدو الصهيوني الخ،. وراهناً العمل على استئصال قوى المقاومة وعلى رأسها قوى المقاومة المسلحة في لبنان وفلسطين، وكل قوى المقاومة السياسية في العالم العربي، إلى جانب بذر الشقاق والصراعات الجانبية (الدينية والمذهبية والطائفية وإشاعة التعصب) بهدف طمس الصراع العربي الامبريالي الصهيوني الذي يمثل التناقض الرئيسي، ثم جلب الجيوش الامبريالية الى المنطقة.
وجاء الشرخ الهائل الذي تسبب في أخطر تصدع عربي في العصر الحديث، والذي بدأه السادات بالصلح مع العدو الصهيوني، بعد أن مهد لذلك بالاستدارة صوب الامبريالية وضرب مشروع التنمية المستقلة عقب حرب أكتوبر المجيدة. وتبعه ملك الأردن بعقد اتفاقية وادي عربة. ثم اتفاقية أوسلو التي تمت بليل من وراء ظهر الفلسطينيين.
وأخيراً، ولاستكمال الكارثة فقد تم اختراع عدو وهمي هو ايران مع محاولات مستميتة لزج سورية في دوامة من المشاكل لمحاولة تركيعها (محاولة إقحامها في موضوع مقتل الحريري وبعد فشلهم افتعال أزمة سورية عراقية... الخ).
على أرضية كل ذلك تهاوت مطالب النظام الرسمي العربي الى الاستعداد للتسوية مقابل وقف الاستيطان!!
غير أن ذلك يعبر بوضوح عن مأزق وأزمة الطبقات العميلة الحاكمة في الغالبية الساحقة من البلدان العربية تحت وطأة تصاعد الصراع الاجتماعي والوطني في بلداننا، واندفاع هؤلاء إلى إجراء أية تسوية بأي ثمن لضمان حماية يمنحها لهم العدو الصهيوني والامبريالي الذي يعاني بدوره من أزمات تضع مصيره ومستقبله موضع تساؤل.
هكذا يعطي هؤلاء المجرمون للعدو سلمياً وبمذلة شديدة مالم يستطع الحصول عليه بالحرب!!
لكن في المقابل لابد من الاعتراف بأن قوى التحرر الوطني في عالمنا العربي تعاني من قصور شديد رغم قدرتها على الصمود حتى الآن. إذ لم تتمكن من الاصطفاف وتوحيد الجهود على المستويات الوطنية والقومية بشكل يتلاءم مع خطورة الاستحقاقات الراهنة.
لا يزال هناك قصور في إدراك العلاقة التي لا تنفصم بين الطبقي والوطني والقومي، كأساس للصراع ضد العدو الصهيوني والامبريالي. وتنجذب قطاعات هامة منها بتأثير عمليات التضليل الواسعة لحرف الصراع عن جوهره وتوجيهه إلى مسارب طائفية ومذهبية وعرقية، وإلى أجندات صهيونية وامبريالية، في حين أن المرحلة الراهنة هي ذروة الالتحام الموضوعي بين الطبقي والوطني والقومي.
إن ما يجري من اصطفاف متسارع للطبقات العميلة على المستويات الوطنية والإقليمية، لابد أن يقابله اصطفاف أسرع لقوى التحرر والتقدم، والتخلي عن ضيق الأفق والأنانية المفرطة والسطحية التي يتم التعامل بها مع قضايا المصير، حتى لا ينجح المجرمون في محاولاتهم لتثبيت الكيان الصهيوني. وإن السلام لن يتحقق والتطور لن يتم سوى بازالة الكيان الصهيوني من المنطقة.