سمير دياب سمير دياب

الثورات الشعبية فوق الشبهات

ما يجري في الشارع العربي كبير وعميق، الحرية تتكلم، والكرامة الإنسانية تتألق، والديمقراطية تثبت بصمتها بالقتل والدم والاعتقال لقطع هوية الإصلاح والتغيير.

إنها ثورة الإصلاح المستندة إلى رغبة تقدم الإنسان على حقد وتخلف النظام، وعلى نيل الحرية ضد العبودية، وعلى مقأومة الموت من أجل الحياة، وعلى  التعددية الديمقراطية ضد الفردية العائلية أو الحزبية، وعلى حب التغيير ضد  التحجر والتخوين والتكفير.

ليست الثورة العربية سريعة العطب كما يحلو للبعض أن يوشمها بهذا الوشم، وليست الثورة الشعبية العربية تحت الشبهات، لأنها ثورة شعب، وشعبنا ليس تابعاً ولا مرتهناً، بعكس حكامه، الذين جربوا كل شيء حتى العمالة المكشوفة، دون خوف أو خجل من شعوبهم الذين دفعوا  دماء على مدى أجيال متعاقبة، كانت كافية لتحرير فلسطين كل فلسطين عدة مرات.

الثورة حقيقة واقعية وليست خيالية، ومن لم يصدق أن «الشعب يريد إسقاط النظام» واستهتر بإرادة سواعد البناء والمستقبل، أي العمال والشباب، وقع في حبائل كبريائه وفوقيته، وقبل أن تطاله يد الثورة  في تونس هرب «حامي الدولة والخزينة» بالجمل وما حمل. ولما لم يصدق «قائد الأمن والأمة» في مصر وتمادى في عنجهيته وفي قساوة معركة جماله في ميدان التحرير، فرضت عليه الثورة الرحيل ثم المحاكمة. والثورتان المنتصرتان في تونس ومصر تكتبان برنامج كل ثورة وسيرورتها بأحرف من وعي طبقي ودم وطني ضد كل مكونات الثورات المضادة وتجارها وأدواتها وأقنعتها في الداخل والخارج، لتؤكد كل منهما مجدداً، أنها ثورة شعبية ديمقراطية وطنية.

ليست مسألة الإصلاح والتغيير لدى شعبنا العربي أكذوبة، ولا هي لعبة من أجل الموت فقط، بل هي معركة طبقية بإمتياز، بين طبقة مجروحة ومكلومة وفقيرة ومعدمة من جهة، وبين قلة معدودة استحوذت على النار والماء والهواء ومعهم مال الدولة والشعب من جهة ثانية. هي معركة بدأت للتو، ومستمرة، ومن انتظر وصبر نصف قرن من الزمن على أنظمة رعناء وجوفاء، لن يسد رمق جوعه إلى الحرية والإصلاح والديمقراطية الكلام الإنشائي، ولا الوعود المنبرية. فالشعب يريد حقوقه في المواطنة والعدالة والمساواة والتنمية والتقدم.. وأول الطريق إلى ذلك حرية الرأي والتعبير والتعددية والتمثيل الديمقراطي الحر.. ويبدو أن الانظمة وعناترها وبلطجيتها وشبيحتها  لم  يصدقوا بعد، رواية الثورة الشعبية الإصلاحية الديمقراطية العربية. ولن يصدقوا طالما عقلية الحاكم المتسيّد المستبد هي التي تتحكم، وليست عقلية المؤتمن على الأرض والشعب والمؤسسات، وعلى الدولة والجيش والوحدة الوطنية. 

ولأن الثورة جاءت من وسط  خط الفقر وما دونه، يعني أن ناسها اختبروا وتجاوزوا كل الخطوط وبجميع ألوان القمع والمنع والقتل والاعتقال والبطالة والغربة.. قبل حصولها. فالتناقضات الاجتماعية قياسية، والفروقات بين أباطرة السلطة والمال وبين فقراء الشعب، هي مسافة الناظر من السماء إلى الارض. لكن على أرض الواقع يعيش شعب، يئس من الانتظار، ومن الموت المجاني، فانتفض على خوفه أولاً، وانفجر غضباً يحمل بذور الثورة ضد سجانيه، وتناغم الشارع الشعبي في جمع قوته، وتحولت القوة إلى ثورة- ثورات نعيش فصولها التاريخية، فصلاً وراء فصل، ومطلباً وراء مطلب، ولكل ثورة خصوصياتها، وإشكالياتها.. لكن الأساس والثابت في هذه الثورات الشعبية هو الإصلاح والتغيير الديمقراطي. لذا، لا يحاول أحد التذاكي على أحد، وإقناع الجماهير بأن تقبل التراجع مقابل إصلاح أتٍ على ورق وعود هذا النظام أو ذاك، أو من على ظهر درع الجزيرة، أو طائرات النيتو– الأميركية..

الثورات الشعبية فجرت هذا الساكن القاتل في مزارع أنظمة عربية منها الملتحق بالمشروع الأمريكي كلياً، وهذا الصنف لا إحراج البته في تخوينه طبقياً ووطنياً وقومياً. أما المربك فهو من الصنف الممانع، وربما الممانع الوحيد، كنظام عربي معادي للإمبريالية الاميركية والصهيونية، والمقصود سورية، التي تحتل موقعاً قومياً متقدماً في المنطقة، والتي تعلم أنها مستهدفة مباشرة من دوائر القرار الدولي لحثها على تغيير مواقفها القومية تجاه فلسطين والصراع العربي– الإسرائيلي، والتخلي عن دعم المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، لالحاقها في ركاب المشروع الاستعماري الامبريالي الجديد.

***

في سورية ثورة شعبية ديمقراطية، ونحن مع الثورة الوطنية الشعبية الديمقراطية، ومع الإصلاح والتغيير، ولن نزايد ونقول بأكثر ما خرج به لقاء المعارضة في «سميراميس» أو نشذ عن قاعدة بنود البيان النهائي والاخير للقاء التشاوري في دمشق.

في سورية ثورة، وعلى كل وطني عربي في سورية حريص على سورية، الدولة الوطنية الموحدة والقوية من رأس النظام إلى  آخر معني ومسؤول في الدولة، أن يسارع للدفع بمسؤولية وحكمة وطنية إلى ملاقاة الثورة الشعبية بأكثر ما تطلب من إصلاحات وحرية وديمقراطية وتعددية والغاء للمادة الثامنة من الدستور.. لضمان تشكيل جدران وطنية شعبية وحزبية وثقافية وأهلية لإزالة واجتثاث خطر التدخل الإمبريالي الأمريكي، وخطر أدواته الاقليمية أو الداخلية ولوأد الفتنة الطائفية والمذهبية المحدقة  بسورية،  ولوقف وإدانة كل أشكال القتل والاعتقال والقمع والمنع. وأكثر من ذلك، إقرار السلطة السورية بحق التظاهرات الشعبية السلمية وتوفير الحماية السلمية لها، ما يضمن حق التعبير الشعبي. وما يضمن تالياً، بداية فعلية وعملية لمسيرة الإصلاح المفترضة. وما يضمن ثالثاً، تقييد وشل حركة المندسين المسلحين من عملاء وإرهابيين وشبيحة الذين يستغلون الحراك الشعبي السلمي، ويدفعون به قدماً باتجاه التجييش الطائفي والمذهبي ونشر الفوضى، لطمس طبيعة الصراع الطبقي وإرادة التغيير، والعبث بمصير الثورة  والدولة والشعب والوحدة الوطنية.

الخوف على سورية حقيقي، فبدلاً من تسويف الوقت والمماطلة في تضييع فرص الإصلاح والتغيير المطلوبين، وقبل أن تقع سورية ضحية فتنة داخلية تسّهل الطريق أمام ذئاب الإمبريالية والرجعية الجاهزة  للإنقضاض عليها من الداخل، وتحديداً من البوابة الطائفية والمذهبية التي هي بالنهاية هدف مشروع الشرق الأوسط الجديد، فإن مصلحة الشعب وثورته، ومصلحة سورية الوطنية والقومية تقتضي  تبديد هذا الخوف المشروع، والسير نحو خطوات جدية وفعلية في مسيرة الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجذرية. وبتكريس خط الممانعة بتعزيز المقاومة الوطنية والصمود مع الشعب وقواه الوطنية الديمقراطية الأهلية والسياسية.

***

الثورات العربية تؤكد حضورها النوعي والتاريخي، ولا خوف منها، أو عليها طالما مكوناتها من الشعب، وحَمَلة مشروع إرادة الشعب في الإصلاح والتغيير، هم ديمقراطيون حقيقيون مؤمنون بالإصلاح الديمقراطي بالمعني الطبقي، وهم ثوريون يؤمنون بالتغيير الثوري بالمعنى الوطني. 

*عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني

عن «النداء» اللبنانية العدد 166