«المسجد الأقصى» في خطر؟... صح النوم..!
قبل يوم واحد من الاحتفاء بالذكرى التاسعة لانطلاقة «انتفاضة الأقصى»، قامت مجموعات من المستعمرين الصهاينة، المنضوية في تنظيمات ارهابية، وبحماية كاملة من قوات البوليس وأجهزة القمع الرسمية لحكومة المستعمرين، بمحاولة الدخول لباحات المسجد الأقصى، في حلقة جديدة من سلسلة التعديات المتكررة على قدسية المسجد ورمزيته، بهدف قياس ردات الفعل الجماهيرية على تحقيق وانجاز الحلقات القادمة، وهي الأخطر، بهدف السيطرة والهيمنة على أرض المسجد المحاط بسلسلة من الكنس اليهودية، من بينها أكبر كنيس يهودي في العالم أقيم فوق المدرسة التنكزية، والعمل على تقسيمه، أسوة بما حصل للحرم الابراهيمي في مدينة الخليل، كما أن قوات الاحتلال باتت تسيطر على كافة المقابر الإسلامية المحيطة بالمسجد الأقصى تمهيداً لإقامة ما يسمى «الحديقة الأثرية»، كجزء من عملية تهويد وصهينة مدينة القدس ومحيطها. مؤسسة الأقصى للوقف والتراث أصدرت بياناً جاء فيه «أحبط المرابطون من أهل القدس وأهل الداخل الفلسطيني محاولة اقتحام المسجد الأقصى المبارك من قبل الجماعات اليهودية بمناسبة ما يطلقون عليه «يوم الكيبور»، وقامت قوات كبيرة من قوات الإحتلال باقتحام المسجد الأقصى بالاعتداء عليه وعلى المرابطين». فقد قامت هذه القوات باطلاق القنابل الدخانية والصوتية، والغازات السامة داخل المسجد القبلي المسقوف، وبتوجيه الرصاص المطاطي نحو أجساد المدافعين عن المسجد، مما أدى لإصابة العشرات بجروح مختلفة، ستة منهم في حالة الخطر، واعتقال أكثر من خمسة عشر مواطناً. كما أصيب ثلاثة عشر عنصراً من قوات العدو، نتيجة رميهم بالأحذية والكراسي والحجارة.
يبدو أن شهر أيلول ارتبط عند الفلسطينيين بمواعيد «حمراء» تصبغ أيامه كل بضع سنوات. ففي الأسبوع الأخير من شهر ايلول/سبتمبر 1996 وعلى مدى ثلاثة أيام انطلقت من القدس شرارة معركة النفق أو «هبة النفق» التي أشعلت النيران في وجه المحتل في العديد من مدن وقرى الضفة وغزة المحتلتين. سقط خلال المواجهات العنيفة ثلاثة وستون شهيداً وما يقارب الألف وستمائة جريح، وفي تلك المعركة الوطنية الكبرى، ساهمت قوى المجتمع الفلسطيني بفعالية في رفد النشاطات الجماهيرية لمواجهة العدوان، ولعبت بعض عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية، دوراً مهماً في التصدي للاعتداءات الوحشية التي مارستها قوات الاحتلال العسكرية. هذه العناصر التي حملت من تاريخها ونضالاتها في صفوف الفصائل والقوى الفدائية المقاتلة، ثقافة المقاومة. لكن النقيض هو مانجده اليوم عند غالبية عناصر تلك الأجهزة من «الفلسطينيين الجدد!»، التي يتم تدريبها النفسي والقتالي في معسكرات ومراكز التخريب «الدايتونية» على مواجهة أبناء شعبهم المقاومين، الذين تصفهم توجيهات الضباط القادة في هذه المعسكرات بـ«المخربين من أعضاء الميليشيات المسلحة» أعداء «السلام والاستقرار».
في الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول 2000 كانت زيارة رئيس الوزراء الأسبق، مجرم الحرب «أرئيل شارون» الذي حاول الدخول للمسجد الأقصى محتمياً بمئات الجنود من مجرمي جيشه، وهو ما مثّل الصاعق الذي فجر بركان الغضب الفلسطيني الذي كانت أبخرة غليانه تنطلق منذ أشهر عديدة. في تسع سنوات قدم الشعب 7515 شهيداً، 24% منهم أطفال دون سن الثامنة عشرة، و5% إناث، واغتيال العديد من القادة (ياسر عرفات، أبو علي مصطفى، أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي) والعشرات من الصفوف الأولى والثانية في الفصائل والكتائب والسرايا المقاتلة، عدا عن مائة ألف جريح بينهم 11% تسبب الاحتلال بإعاقتهم إعاقة دائمة، منهم من فقد أطرافه او إحدى عينيه أو قطعةً من جسده وذلك وفقا للدكتور معاوية حسنين مدير عام الاسعاف والطوارئ بوزارة الصحة. بالإضافة إلى الاعتداءات الوحشية المتكررة على قطاع غزة، التي كان آخرها بشكله الحربي التدميري قبل تسعة أشهر، واستمراره للآن بأشكال الحصار والخنق اليومي. كما شهدت تلك السنوات المنصرمة، تطورات على مختلف الصعد السياسية والمجتمعية، انعكست نتائجها السلبية على المشروع الوطني التحرري، الذي نعيش تداعياته منذ سنوات، خاصة تحول بعض القوى من كونها حركات تحرر إلى أحزاب للسلطة، التي كان من أهم مبررات وجودها واستمرارها، وقف المقاومة و«استئصال» سلاحها، والأهم ثقافتها، وقيامها بحماية نقاط التماس مع قوات العدو ومستعمراته، واستجداء رضى حكوماته، والممولين الأجانب. لكن انتفاضة الأقصى استطاعت أن تعيد القضية الفلسطينية لموقعها الأساسي من حيث الفاعلية الاقليمية والدولية، لأن جزءً من القوى بدأ يتلمس مأزق اتفاق أوسلو الكارثي، الذي تخلى عن جزء أساسي من الشعب، وحوّل الصراع مع العدو إلى طاولة المفاوضات في الغرف المغلقة. لقد وضعت انتفاضة الأقصى الصراع الفلسطيني/ الصهيوني في البند الأول على أجندة النشاط السياسي الاقليمي والدولي. كما حققت تضحيات جماهيرها وقواها المقاتلة، انسحاب العدو من قطاع غزة.
إن القراءة الموضوعية لمواجهات الأحد 27/9/2009، تؤكد على أن سياسة الاستجداء عبر المفاوضات التي تلجأ اليها سلطة رام الله في ظل الانكشاف السريع لحقيقة الموقف الأمريكي من بناء المستعمرات، الذي انتقل من الطلب لـ«وقف الاستيطان» إلى «كبحه»! وفي اندفاعة حكومة نتنياهو نحو تهويد وصهينة ماتبقى من الأرض الفلسطينية، ستؤدي على الجانب الآخر إلى المزيد من التنازلات التي ستقود للتخلي عما تبقى، من أجل الحفاظ على مايسمى «سلطة». كما أن تلك الأحداث قد كشفت عن ضعف واضح في سرعة الاستجابة الجماهيرية وشموليتها لمواجهة العدوان الجديد على المسجد الأقصى، وعكست بالوقت ذاته، تخلف القوى السياسية «فصائل وأحزاب» عن لعب الدور المطلوب/ الطليعي في المواجهة المستعرة في مدينة القدس ومحيطها. وبالمقارنة البسيطة بين التفاعل الجماهيري الواسع في مواجهات عامي 1996 و2000 ومايحصل الآن نستطيع ملاحظة تدني- إذا لم نقل اختفاء- دور الحركة السياسية المنظمة، بفعل أزماتها البنيوية المستعصية، وكنتيجة للدور القمعي الذي تقوم به سلطة رام الله البوليسية. وإذا كان المسجد الأقصى في خطر الآن، فإن القضية الوطنية لشعبنا تعيش في هذه المرحلة أصعب وأخطر مراحلها. لأن معركة الدفاع عن المقدسات الاسلامية والمسيحية لاتقل أهمية عن الدفاع عن القدس وغزة والخليل، ولاتعني للحظة واحدة التخلي عن المقاومة التي انطلقت لتحرير الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948. فالحديث عن اختزال الوطن- فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر- في المصطلحات التضليلية عن «جناحي الوطن» الضفة وغزة، سيساهم في تقسيم الأرض، وتجزئة الشعب.
إن شعبنا في الأراضي المحتلة منذ عام 1948 وهو يستعد بالنشاطات الميدانية المتتالية للاحتفاء بالذكرى التاسعة لهبة اكتوبر المجيدة التي سقط خلالها ثلاثة عشر شهيداً عام 2000 والتي جاءت للتضامن من موقع الانتماء والمشاركة مع انتفاضة الأقصى، لم تتردد في لعب دورها في حماية المقدسات والدفاع عنها، وعن عروبة القدس، كموقف مستمد من انتمائها لشعبها وأمتها.
أما المواقف العربية والاسلامية الرسمية، فجاءت معبّرة عن حالة التخاذل والارتهان التي تعيشها معظم حكوماتها. كما أن الهيئات والمؤسسات التي تعنى بشؤون القدس، عاجزة عن الفعل والتأثير بفعل العديد من العوامل. ولهذا تتراوح المواقف المعلنة مابين التنديد والاستنكار! ولهذا ليس لفلسطين، بمقدساتها وقدسها، من يدافع عنها سوى أهلها الذين لايملكون لمواجهة العدو ونكران «ذوي القربى» إلا إرادتهم وقبضاتهم وصدورهم العارية.