حول «جاستا» وغيره: سكين الحقائق على العنق السعودية..!
جملة من القضايا الداخلية والخارجية تواجه السعودية في هذه المرحلة، بعد أن عاشت المملكة عقوداً من «الاستقرار النسبي» المستند بالأصل إلى مرحلة هيمنة الحليف الأمريكي على المشهد العالمي برمته، لتدخل اليوم في دوامة التغيرات الكبرى المحيطة بها.
يبدو التساؤل في هذا السياق مشروعاً: في خضم هذه التغيرات العاصفة، أي نوع من التحولات سيكون على السعودية أن تنتظرها، تبعاً لطبيعتها الداخلية، وشكل علاقاتها الخارجية؟
التنظير لـ«نهاية التاريخ» و«سيادة الإمبراطورية الأمريكية» يسقط اليوم عند أول احتكاك له مع الواقع. العالم يغير جلده، ولو كرهت واشنطن هذه الحقيقة التي تستعصي على محبي النموذج العالمي المقاد أمريكياً قبل حين، ومنها السعودية. لكن الشيء الوحيد الذي يقنعهم بها هو وصول النار إلى ديارهم، ورؤية الحليف الأكبر عاجزاً عن تقديم الدعم المعتاد فيما مضى.
قانون «جاستا» ذو الحدين
15 عاماً على أحداث الحادي عشر من أيلول 2001. اليوم فقط «استفاقت» واشنطن للمطالبة بـ«حقوق ضحاياها» التي تغاضت عنها طوال تلك المدة، ليجد حكام السعودية أنفسهم، في أواخر شهر أيلول الماضي، أمام قرار أمريكي صمم لأجلهم: إنه قانون «جاستا».
يأتي مصطلح «جاستا» اختصاراً لـ«Justice Against Sponsors of Terrorism - العدالة بمواجهة رعاة الإرهاب»، ويتيح القانون الذي يحمل الاسم ذاته، لعائلات ضحايا 11 أيلول مقاضاة المتورطين في الإرهاب ورعاتهم (المقصود الجانب السعودي فقط) أيضاً.
لاقى القانون رفضاً من الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، لكنه لم يستطع، منع تمرير القرار الموافق عليه في مجلس الشيوخ والنواب بالأغلبية، رغم استخدامه حق النقض الذي يملكه مثيراً بعدها موجة من التساؤلات حول مستقبل العلاقات الأمريكية- السعودية في حال حدوث تفعيل جدي لهذا القانون.
المتحدث باسم البيت الأبيض، جوش إرنست، رد على تصويت مجلس الشيوخ ضد فيتو أوباما بقوله إنه «الشيء الأكثر إحراجاً الذي فعله مجلس الشيوخ منذ عام 1983»، في إشارة إلى آخر مرة تم فيها نقض فيتو رئاسي في الولايات المتحدة.
مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، جون برينان، قال في السياق ذاته: «إن القانون ستكون له عواقب وخيمة على الأمن الوطني الأمريكي»، مضيفاً: «أخطر العواقب وأكثرها ضرراً سيتعرض لها أولئك المسؤولون الحكوميون الأمريكيون الذين يعملون في الخارج نيابة عن بلادنا».
فاتورة الالتصاق
بواشنطن باهظة
الجانب السعودي، بطبيعة الحال، رد على القانون الأمريكي بسلسلة من المواقف عبر القنوات الدبلوماسية والإعلامية، إذ علق وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، على القانون، مشدداً على الأهمية التي يوليها القانون الدولي لمبدأ سيادة الدول وحصانتها من الخضوع للقضاء الوطني لأية دولة، مشيراً إلى أن تبني أي تشريعات أحادية تقوض هذا المبدأ ويعد انتهاكاً واضحاً لمبادئ القانون الدولي.
تقارير إعلامية تناقلت تهديدات الرياض لواشنطن بسحب الودائع السعودية في البنوك الأمريكية، والبالغة قيمتها 750 مليار دولار، في الوقت الذي سارع فيه الجبير إلى نفي هذه التهديدات.
في الواقع، إن حجم الأزمة في الداخل الأمريكي، والحرب المستعرة على مكانة واشنطن الدولية اقتصادياً وعسكرياً، في وجه القوى الصاعدة كـ«بريكس»، يدفع بها نحو اتخاذ إجراءات شاملة تعيد النظر بجملة السياسات التي كانت سائدة في مرحلة الهيمنة الأمريكية، ومن بينها العلاقة مع الحلفاء.
وفي هذه المسألة، يبدو القانون الأمريكي بغض النظر عن قابلية تطبيقه من عدمها، هو «انتصار» لتيارات داخل الإدارة الأمريكية، تخشى فقدان التحكم بالتوجهات السعودية مستقبلاً، وشق عصا الطاعة الأمريكية، وتحاول إبقاءها في عهدتها، وبالتالي، فالقانون بمضمونه سكين على رقبة السعوديين، يمكن استخدامه للابتزاز السياسي في أي خلاف قادم بين الطرفين.
لكن القرار من الممكن أن يكون ذا أثر سلبي غير محسوب النتائج، بالنسبة لواشنطن والرياض معاً في حال استخدام كل من الطرفين لأوراق الضغط المتوفرة بين يديه، في الوقت الذي يبحث فيه البلدان كلاهما عن حلول لمشاكلهما في الداخل والخارج.
بالنتيجة، فمن المؤكد أن اتخاذ هذا القرار بحد ذاته يعبر عن أزمة أمريكية بدافع ضيق الخيارات المتاحة، ما دفع واشنطن لاستخدام هذه الطريقة في التعامل مع أقرب حلفائها. وفي المقابل، هو معبّر عن أزمة الرياض التي تضطر لتدفع أثمان الالتصاق بالمعسكر الأمريكي في صعوده وهبوطه.
«صراع العروش»
المشهد المكرر في السعودية: الملك يمرض والولاة يتنازعون السلطة قبل موته، سلمان بن عبد العزيز (80 عاماً)، الذي يعاني صحياً، أوكل ولاية العهد لمحمد بن نايف، وزير الداخلية، والرجل المقرب من الولايات المتحدة. في المقابل، يصعد بسرعة إلى واجهة الحياة السياسية السعودية محمد بن سلمان (30 عاماً)، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع، ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، محاولاً تسويق نفسه داخلياً عبر إطلاقه برنامج «التحول الوطني 2020»، الذي يعد جزءاً من «رؤية 2030»، التي استهدفت «نموذجاً تنموياً» مستحدثاً في السعودية. أما خارجياً، فقد عمل بن سلمان على الاستفادة من مناصبه في التنقل بين عواصم الدول، عارضاً رؤاه المستقبلية لحال المملكة، كما الحال في لقاءاته على هامش قمة العشرين، الشهر الماضي، وزياراته إلى كل من موسكو وأنقرة وواشنطن.
غير أن اللافت في هذه المرحلة هو انخفاض الظهور الإعلامي لبن سلمان، لحساب ولي العهد، محمد بن نايف، الذي يحسبه مراقبون على الجناح الأكثر التصاقاً بالجانب الأمريكي، وهو ما يضع إشارات استفهام حول «التغيب» الأخير لبن سلمان.
بالتالي، يبدو أن واشنطن- بما تملكه من نفوذ وأدوات سيطرة داخل المملكة- غير واثقة تماماً بعمل بن سلمان وتحركاته الدولية، وعليه، يمكن فهم التوجه الإعلامي الأمريكي لإلقاء اللوم في الفشل السعودي في اليمن على بن سلمان وحده، مع محاولات محمومة لتبرئة بن نايف، وتحييده عن المسؤولية في الفشل المرير على جبهات اليمن، وحرب أسعار النفط بوجه خاص.