هل تقفز القاهرة فوق «التدفقات العربية»؟
غيّرت الصفحات الأولى في الصحف المصرية عناوينها الرئيسية، بعد أن تصدرتها لأشهر طويلة أخبار العمليات العسكرية في سيناء، وأزمة الأجواء المصرية من إسقاط طائرة السياح، إلى خطف أخرى، ليحتل الجانب الاقتصادي الموصوف بالخطير جداً عناوين تلك الصحف.
البحث في أزمة الاقتصاد المصري ليست بالجديدة، إلا أن العمل على نزع فتيل التوتر على الحدود مترامية الأطراف «أجَّله» نسبياً من جهة، ودفعه إلى الواجهة اليوم، تحت ضغط الظروف الاقتصادية المزرية في الداخل المصري، خصوصاً في بلد تعتمد اقتصادياً بشكل رئيسي على قطاع السياحة، وترانزيت السويس المتأثر بركود حركة التجارة العالمية على العموم..
أكثر ما يشاع في الأوساط المصرية اليوم هو مسألة تعويم الجنيه المصري، نتيجة انخفاض سعر صرفه مقابل الدولار. وعلى الرغم من «تمهل» الدوائر المعنية بهذا القرار، إلا أن تأخر الحل يدفع- بحسب بعض المحللين- أكثر فأكثر نحو هذا الخيار، خصوصاً في ظل ضغط السوق السوداء على قيمة الصرف المحددة من قبل المصرف المركزي.
الجنيه في مهب الريح
تقول الإحصاءات الحكومية بارتفاع نسب التضخم إلى 16%، حتى قبل اتخاذ قرار كهذا، وهو ما يعني عملياً أنه في حال الوصول إليه، فإننا سنشهد ارتفاعاً أكبر في أسعار السلع الأساسية التي تستورد مصر منها القسم الأعظم، كالقمح والأرز والسكر واللحوم المجمدة، ما يرفع التوترات الاجتماعية إلى مستويات غير مسبوقة، والتي كانت إحدى مؤشراتها ارتفاع أعداد المصريين القابعين تحت خط الفقر بنسبة 27.8%، حسب كلام وزير التخطيط المصري، وزيادة حركة الإضرابات العمالية، كالتي شهدتها شركة «سيراميكا مصر» في المنوفية، المستمرة منذ أكثر من شهرين، وإضراب عمال شركتي «المصرية»، و«الحديثة» للكبريت، وعمال «طنطا للكتان»، و«الزامل للهياكل الحديدية»، وغيرها من الإضرابات.
حول انخفاض الدعم الخليجي
كان حجم التدفقات المالية الكبير التي حصلت عليها مصر من دول خليجية، كالسعودية والإمارات، السبيل نحو «ترقيع» أزمة عميقة في البنية الاقتصادية للبلاد، وهو خيار تبنته مصر كاستفادة من ريعها السياسي.
في هذا الصدد، يجادل بعض الاقتصاديين حول أن هذا التحصيل المالي الذي كانت تحوزه مصر من الخليجيين سيكون مشروعاً، في حال تبعته مصر بإجراءات اقتصادية جذرية، يستدعيها من حيث الأساس الواقع الاقتصادي الاجتماعي المصري من جهة، والتوقف المتوقع للتدفقات الخليجية من جهة أخرى، مما سيضع أمام البلاد مهمة النهوض بالاقتصاد الوطني، بعد انسداد «المنافذ» الخليجية المأزومة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
تتضارب الإحصاءات حول حجم «المساعدات» الخليجية لمصر، وتتراوح التقديرات بين 23 و30 مليار دولار، منذ تموز 2013. ولنفترض أن الوسطي السنوي كان 10 مليار دولار، فإن هذه المساعدات سوف تشهد خلال العام الحالي انخفاضاً ملحوظاً، مقارنة بأرقام السنوات الثلاث الماضية. ويشير إلى ذلك آخر وديعة سعودية أعلن عنها البنك المركزي المصري في 12/تشرين الأول الحالي، والتي بلغت قيمتها 2 مليار دولار. وتتعدد الأسباب هنا حول انخفاض الدعم الخليجي، وتحديداً السعودي لمصر، وهي ثلاثة أسباب رئيسة على الأقل:
الأول: هو الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالخليج، نتيجة انخفاض أسعار النفط العالمية، والتي تلعب السعودية دوراً أساسياً في انخفاضها..! إضافة إلى التكاليف الباهظة للحرب على اليمن، والتي كلفت السعوديين 725 مليار دولار، حسب تقرير مفصّل نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية خلال الشهر الماضي.
الثاني: هو في صعوبة التحكم السعودي بخيارات مصر الاستراتيجية، فيما يخص القضايا الدولية، وعلى رأسها العلاقات المصرية- التركية، التي عجزت السعودية عن لعب دور الوسيط فيها، إضافة إلى الموقف المصري من الأزمة السورية. وهنا، تجدر الإشارة مثلاً إلى امتعاض المملكة من التصويت المصري لمصلحة مشروع القرار الروسي في مجلس الأمن، الذي يدعو إلى اعتماد مبادرة دي مستورا كقرار دولي، حيث وصفه المندوب السعودي لدى الأمم المتحدة، عبد الله المعلمي، بـ«المؤلم».
وأكد هذا الاستياء السعودي لاحقاً إيقاف شركة «أرامكو» السعودية إمداداتها النفطية لمصر لشهر تشرين الأول الحالي، ومغادرة السفير السعودي في مصر، أحمد القطان، إلى الرياض بشكل طارئ، في زيارة يبحث خلالها مع مسؤولي بلاده ملف العلاقات المصرية-السعودية، حسب تقارير صحفية مصرية.
ثالثاً: ترتيب الأولويات السعودية فيما يخص علاقاتها الإقليمية، ومحاولة الاقتراب أكثر من الجانب التركي، وهو ما يشير إليه اتجاه «أرامكو» لتوقيع سلسلة اتفاقيات مع 18 شركة تركية، بعد يوم واحد فقط من إعلان إيقاف الإمدادات النفطية إلى مصر. أي أن السعودية تراهن على جدوى اقتصادية وسياسية أعلى مع الجانب التركي، وهو اتجاه موضوعي بالنسبة للسعوديين، خصوصاً بعد حاجة السعودية لاستثمارات جديدة داخل المملكة، بعد أن كان حجم التدفقات نحو الخارج هو السائد في العلاقات السعودية مع الدول الأخرى.
إرهاب صندوق النقد الدولي
شروط قاسية فرضها صندوق النقد الدولي على مصر، من أجل حصولها على قرض بقيمة 12 مليار دولار يسدد على ثلاث سنوات. وقد كان للصندوق ما يريد، حيث أن الحكومة المصرية- وضمن برنامجها لـ«الإصلاح الاقتصادي»- أقرت قانون الضريبة على القيمة المضافة، تنفيذاً لإملاءات صندوق النقد، إضافة إلى «إصلاح» منظومة دعم الطاقة، وطرح شركات مملوكة للدولة للبيع في البورصة. وعلى إثرها، ستحصل مصر على الشريحة الأولى المعلن عنها في 8/تشرين الأول الحالي، في محاولة لسد عجز الموازنة الذي وصل إلى 13%، ورفع قيمة الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي، بعد أن وصل هذا الشهر إلى 19.5 مليار دولار، على أن يصل إلى 30 مليار دولار المستهدفة في نهاية العام، ومثلها في الأعوام الثلاث المقبلة، بحسب بيانات بنك «لازارد» الفرنسي، المتخصص في الاستشارات المالية، وذلك من أجل سد عجز الموازنة، وتحقيق معدل نمو نسبته 5% خلال أربع سنوات.
تعدّ هذه القروض المطلوبة من صندوق النقد الدولي أكبر المشكلات في توجهات مصر الاقتصادية، والتي سادت منذ عهد الرئيس الأسبق، أنور السادات، ومستمرة حتى اليوم، كونها تؤشر إلى توجهات معتمدة لدى قوى مؤثرة بشكل كبير داخل جهاز الدولة المصري، تصر على نهج ليبرالي يتسبب بتفاقم الأزمات الاقتصادية لمصر، وأثمر حتى الآن موجتي حراك شعبي، الثانية منها تعتبر الأكبر في العصر الحديث. ومما يعزز خطورة هذه التوجهات هو ظهور قوى اقتصادية صاعدة، بإمكانها مساعدة مصر بشروط أقل تكلفة من تلك الشروط المؤلمة التي من شأنها أن تزيد معاناة المواطن المصري المنكوب أصلاً.
المؤكد أن تيارات وطنية داخل جهاز الدولة المصري ترى المشهد وتدرك مخاطر استمرار السياسات الاقتصادية الحالية، لكن حجم المعركة ضد قوى الفساد المستفيدة من السياسات الحالية، لم يصل بعد إلى ملاقاة مستوى المخاطر المحدقة بمصر كدولة. وعليه فإن المهمة اليوم تصبح أكثر ثقلاً على القوى الحية في داخل جهاز الدولة والمجتمع المصري لإحداث تغييرات على مستوى الأزمة، تخرج بها مصر من دائرة الخطر.