الآن المصائر تتحدد...
اقتربنا من الذكرى الرابعة للغزو الأمريكي للعراق.
ينبغي أن نتعلم من عبر الحاضر ومن دروس التاريخ..
حينما بدأت الحرب على العراق وشعبه، وهي حرب في جوهرها تستهدف إحداث انقلاب استراتيجي في الإقليم يراد له أن يكون أساسا لانقلاب استراتيجي على مستوى العالم - فان العدو الأمريكي قام بتدمير كل شيء فيما عدا مقر وزارة النفط لأسباب معروفة.
منطق استعماري..
إن كيان الدولة - أي دولة - يتمثل في قوتها الشاملة (السياسية- الاقتصادية –الاجتماعية - الثقافية - العلمية - العسكرية أي منظومة القوة)
من هنا كان الحرص على تدمير عناصر القوة الشاملة للدولة العراقية والحرص الأكبر على التدمير النهائي لمنظومة القوة فيها لإحداث تقويض كيان الدولة وليس مجرد إسقاط السلطة فيها.
ومن قبيل الغفلة بل والتواطؤ تبرير أو تصديق ما يقال عن بناء جيش في العراق واستكمال منظومة قوة تقوم بوظائفها في حماية الوطن والشعب. فلم يحدث أبدا أن قام محتل ببناء عناصر منظومة قوة لبلد قام باحتلاله.
نفس المنطق يحكم ادعاءات تسليح منظومة القوة في أي دولة، عدا الدولة اليهودية.
الهدف الأمريكي الصهيوني يستهدف تقويض دول المنطقة حربا أو سلما كمقدمة لتفتيتها إلى شظايا وتنفيذ المشروع الأمريكي الصهيوني (الشرق الأوسط الجديد).
إذا كان ما حدث للعراق يعطينا عبرة الحاضر - وهو مرئي وملموس ولا يحتاج لوصف مستفيض فإن الأخطر هو أنه لا منجى لأي من دول المنطقة من أن يشملها المشروع المعادي. ورغم أن المشروع قد ترنح على صخرة المقاومة اللبنانية الباسلة فإن ذلك إلى حين كما أن الخطر الأعظم يهدد مصر مثلما يهدد الإقليم كله.
اللبرلة الاقتصادية: قصف تمهيدي
الخطر الأعظم على مصر لا يأتي من الخارج فقط ولكن من الداخل أيضاً وحجم هذا الخطر هائل لكونه متناسبا مع دور مصر وأهميتها. ولذلك فليس غريبا تصاعد أداء التدمير المنهجي لمصر منذ وقت مبكر وعلى مدى يزيد على ربع قرن وهو بمثابة إعداد المسرح لما هو قادم للإقليم.
هذا التدمير الواسع منصب وبوحشية على عناصر القوة الشاملة للدولة المصرية، فقد تم التخلي عن مشروع التنمية الشاملة الطامح إلى الاستقلال والتقدم والنهضة.
ودخلت البلاد إلى مرحلة من الردة التي أعادتها إلى التبعية الكاملة والمباشرة من جديد على أيدي طبقة كمبرادورية تم تسريع بنائها ودعمها من أعلى داخليا وخارجيا على السواء وتم إطلاق يد هذه الطبقة للنهب والاستغلال والفساد وتدمير الاقتصاد تحت مسمى الحرية الاقتصادية واقتصاد السوق حيث تم تدمير واسع للصناعة الوطنية وللزراعة عبر وباء الخصخصة وفتح الباب أمام رأس المال الامبريالي والصهيوني ليقوم بعملية نهب وحشي وفوضوي لا سابق له وما تبع ذلك من سياسات اجتماعية دمرت عنصر القوة الاجتماعية عبر كنس كافة المكتسبات التي تحققت خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي للطبقة العاملة وفقراء الفلاحين والفئات الوسطي وسائر الكادحين وشاع الفقر والإملاق والبطالة واستفحلت ظاهرة أطفال الشوارع الخ.
العدوان الثقافي السياسي
ولحقت بالثقافة الوطنية أضرار فادحة كما تجري عملية تدمير للمنظومة القيمية للمجتمع وكذا إضعاف روح الانتماء وتراجع لحد الاضمحلال دور مصر العربي والإقليمي والدولي وترنحت الحياة السياسية تحت وطأة استسلام الشطر الأكبر من النخبة السياسية أو تكيفت واحتواها الحراك الاجتماعي المصاحب للسياسات المطبقة وانجراف جزء منها إلى ما يسمي بالجمعيات الأهلية الممولة امبريالياً وصهيونياً والعمل وفق أجندات الممولين. باختصار تم تقويض عناصر القوة الشاملة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والروحية إلى درجة مفزعة في سياق الإسهام في إعداد المسرح تماما أمام الانقلاب الاستراتيجي في الإقليم وتحقيق مشروع الهيمنة الأمريكية الصهيونية.
غير أن العنصر الوحيد الذي استعصى على التدمير رغم ما قد يكون قد أصابه من أضرار أدبية في الحد الأدنى كان عنصر (منظومة القوة) الذي يعتبر حتى الآن عنصر المناعة التي تحول دون انهيار البلاد باعتباره العمود الفقري للدولة.
استحضار التاريخ:
الجيش الهدف والمفتاح
من المفيد في الظروف المفصلية والانعطافات الحادة أن تتم محاولات لاستحضار مراحل تاريخية معينة أو أحداث لها طابع استثنائي للخروج ببعض الاستخلاصات بالاستفادة من عبر ودروس التاريخ.
أوائل القرن التاسع عشر كانت مصر قد بدأت تنفض غبار قرون من النهب والاستبداد والتخلف تحت حكم العثمانيين وبدأ والي مصر محمد على باشا بعد تعيينه وإحلال الاستقرار في العمل على انجاز مشروع للنهضة. وقطعت مصر شوطاً هائلاً على طريق التطور في الصناعة - بما فيها صناعة السلاح التي كانت تضاهي نظيرتها في بلدان أوربا المتطورة صناعياً- كذلك تطوير الزراعة والري والتعليم وبناء جيش قوى ومدرب وحديث زاد تعداد ضباطه وجنوده على (ثلث) مليون مقاتل في حين كان سكان مصر لم يصل تعدادهم إلى أربعة ملايين نسمة.
وفزعت أوربا بقدر ما فزعت الدولة العثمانية إذ أن مصر قد بدأت في مباشرة دورها الإقليمي التاريخي ذلك أن مصر من وجهة نظر الدول الأوربية والدولة العثمانية يجب أن تظل منكفئة على نفسها داخل حدودها وألا تتطلع لأي تأثير مادي أو معنوي خارج حدودها الجغرافية.
إن هذه النهضة الهائلة والشاملة حمل عبء قيادتها تحالف قاد جانب منه (ساري عسكر) إبراهيم باشا ابن محمد علي والقائد العسكري الفذ وقاد الطرف الآخر من التحالف رفاعة رافع الطهطاوي ممثلاً للمثقفين المصريين كالطليعة الشعبية في ذلك الوقت. وكان هذا التحالف هو القلب النابض والرافعة وقوة الدفع لمشروع النهضة.
لقد أدرك إبراهيم باشا ورفاعة الطهطاوي أن النهضة لا تتحقق سوى ببناء القوة الشاملة وفي القلب منها منظومة القوة.
التاريخ يعيد نفسه
في مواجهة مشروع محمد على باشا تنادت أوربا والدولة العثمانية وأقاموا تحالفا دوليا (فالتحالف الدولي قديم) وشمل هذا التحالف الأتراك العثمانيين وغالبية دول أوربا المهمة من بريطانيا في الغرب إلى روسيا القيصرية في أقصى الشرق وتصدى الحلف غير المقدس للجيش والأسطول المصريين اللذين كادا يدقان أبواب القسطنطينية.
كان الهدف هو إجهاض القوة المصرية وحبس مصر داخل حدودها فاقدة للتأثير في محيطها وفرض الأعداء على مصر شرطين رئيسيين في عام 1841 هما: سياسة الباب المفتوح في الاقتصاد - تخفيض عدد الجيش المصري إلى 18 ألف جندي(أي 5% من حجمه). بعبارات مختصرة (تجريد مصر من مشروعها بتجريدها من قوتها الشاملة وأساسا منظومة قوتها) وانفتحت المنطقة التي كانت ماتزال عصية على الاستعمار الأوربي الذي كان قد انتشر كالوباء في كل أركان الأرض.
الجماهير عماد المقاومة
ولم تخمد روح المقاومة رغم كل مالحق بالبلاد من دمار جراء الهجوم الكاسح للبنوك الأوربية والمرابين اليهود وكل أنواع الأفاقين في عهد الوالي سعيد باشا ومن بعده إسماعيل. إن روح المقاومة الكامنة دفعت باتجاه مقدمات نهوض جديد وبلورت قوى الثورة العرابية هذا الأمل الذي بلغ ذروته عامي 1881 و 1882 (عامي العاصفة الثورية) وكانت القوى القائدة لهذا النهوض الثوري ممثلة في (ساري عسكر - أميرلاي أي عميد محمد بك عبيد الأكثر جذرية بين العسكريين) و(عبد الله النديم خطيب الثورة والأكثر جذرية بين المثقفين) وكان هذا التحالف مسلحا برؤية اجتماعية متقدمة ورؤية سياسية متطورة طرحت ضرورة عزل الخديوي توفيق وإعلان الجمهورية بما يستتبعه من الاستقلال عن الدولة العثمانية وكذا توجه عميق نحو الفقراء وخاصة الفلاحين.
وهكذا ولمرتين يفصل بينهما أقل من نصف قرن يكون الطريق إلى المشروع النهضوي والوطني قائماً على أكتاف منظومة القوة والمثقفين، إذ مثل المثقفون في ذلك العصر طليعة القوى الشعبية في البلاد.
بعد الاحتلال بسنوات بدأت يقظة جديدة بقيادة مصطفي كامل ومحمد فريد للمطالبة بالجلاء إلى أن اشتعلت ثورة شعبية عارمة في عام 1919 والتي أبلى فيها العمال والفلاحون والمثقفون بلاءً عظيماً، إلا أن قيادتها البرجوازية الوطنية لم تكن تحمل مشروعا نهضويا شاملا ولا حتى الحد الأدنى من الأهداف الاجتماعية بل وتم وصف الجماهير الشعبية التي حملت على عاتقها الفعل الثوري بأنهم (رعاع).
وانحصر برنامج البرجوازية فقط في المطالبة بالجلاء والدستور، ووجه الحزب الشيوعي المصري الذي كان علنيا مابين عامي 1921 و1924 بقسوة بالغة وتم حله واعتقال كوادره ومصادرة ممتلكاته. ونتيجة لانفراد البرجوازية وكبار ملاك الأراضي بالحكم فقد ظلت تراوح في مكانها بالنسبة لجلاء الاحتلال بين مفاوضات تبدأ ومفاوضات تنفض حتى قيام ثورة 23 يوليو عام 1952.
هل يمكن بناء الاشتراكية
دون اشتراكيين؟
ورغم أنه لم يقدر لثورة يوليو التي قادها الجيش أن تتحالف مع طليعة الطبقة العاملة إذ أن التطورات الطبقية والسياسية لتلك الفترة كانت قد أفرزت قاعدة اجتماعية تمثلت في الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين الذين شهدت سنوات ماقبل الثورة العديد من انتفاضاتهم، لكن تعقيدات سابقة على الثورة ومصاحبة لها، تحتاج إلى دراسة خاصة، قد أعاقت التحالف المنشود. غير أنه لابد من الاعتراف أن جمال عبد الناصر بذاته وبصرف النظر عن زملائه كان يحمل مشروعا نهضوياً وتحرريا وتقدميا وقام بتطوير هذا المشروع حتى وفاته.
مع تطور ثورة يوليو التي لم تكن مستندة لتنظيم سياسي لدى قيامها مرت بعدة تجارب حتى مرحلة التحولات الواسعة عام 1961، حيث طرح عبد الناصر موضوع تحالف قوى الشعب العاملة بين الفلاحين والعمال والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية لكنه أعلن في أكثر من مناسبة في منتصف الستينيات أنه يبني الاشتراكية دون اشتراكيين وربما أدرك أن البيروقراطية قد قويت شوكتها في الدولة والتنظيم السياسي وهكذا تم الانقضاض على المشروع بعد وفاة جمال عبد الناصر والانقلاب المضاد للثورة الذي قاده أنور السادات ثم توالت فصول الردة.
استنتاجات
قبل الخوض في استخلاصات حول تجاربنا يجدر التنبه إلى أن الصراع الذي نعيشه الآن ليس وليد هذه السنوات وأننا ذقنا مرارات الفشل مثلما سعدنا بالنجاحات وأننا يجب أن ندرس تجاربنا بعناية، مواطن القوة ومواطن الضعف فيها.
على أى حال يمكن تقديم عدد من الاستخلاصات أُجمل أهمها فيما يلي:
الأول: أن المنطقة وجذور الصراع فيها تتعرض الآن لاستكمال لمشروع سايكس بيكو الذي يستهدف وإن بمسمى (الشرق الأوسط الجديد) تمزيق كيانات الدول العربية وباقي دول الإقليم من بحر قزوين إلى الأطلسي على أساس الدين والطائفة والمذهب والعرق وربما القبيلة أو مجموعة من القبائل شظايا متقاتلة متناحرة متخلفة خاضعة تماما للسيد الأمريكي الصهيوني وأن يمر المشروع بالحديد والنار أو سلما بالخضوع الذليل بحجة إيثار السلامة وهذا يجب مقاومته مهما كانت التكلفة، والانتصار مضمون إذا توافرت إرادة المقاومة.
ثانيا: إن العدو في كل البلدان هو في الخارج والداخل على حد سواء تجسده تلك الطبقات الكمبرادورية العميلة وليس مجرد حكام أو حكومات فتلك نظرة إصلاحية قاصرة وخادعة. التناقض الرئيسي هو بين شعوبنا من ناحية وبين الامبريالية والصهيونية وعملائهم المحليين من ناحية أخرى وهو ما يتطلب فرزا دقيقا للقوى.
ثالثا: إن العدو الإمبريالي الصهيوني يرى أن مصر بحكم دورها وثقلها لابد أن تخرج من المعادلة في المنطقة وأن تظل منكفئة على نفسها داخل حدودها لأن ذلك سوف يسهل تمرير المشروع وهذا تجب مقاومته شعبيا في مصر وفي كل البلدان العربية.
رابعا: وهو الاستخلاص الرئيسي والذي يخص مصر بالدرجة الأولى فلقد كشف التطور التاريخي للحركة الوطنية المصرية عن قانون خاص بها مؤداه هو ارتباط شراكة بين القوى الوطنية المدنية وبين منظومة القوة، شراكة كانت قائمة دائما على مشروع، وذلك ما تكرر لمرات ثلاث خلال أقل من قرن ونصف.
ما العمل؟
في المرحلة الفاصلة الراهنة وهي مرحلة تؤكد شواهدها الظاهرة والخفية إدراك أعداء الوطن أن صعوبات جمة سوف تواجه مشاريعهم بسبب صمود منظومة القوة دون سائر عناصر القوة الشاملة للبلاد لذلك فالحفاظ عليها وحمايتها لابد أن تكون على رأس الأولويات الوطنية، فلابد من الحرص على تقويتها واحتضانها لأن دورها ومكانتها يضعانها في قلب مشروع النهضة والتحرر والتقدم لا أن تكون عند حافته.
إن مصائر شعوبنا تتشكل الآن: فإما أن تكون باتجاه الضياع والخروج من الجغرافيا والتاريخ والمستقبل أو باتجاه تثبيت وجودنا الفاعل بتواصل الجغرافيا والتاريخ والمستقبل.
وليس من قبيل المبالغة أن نعتبر دور مصر في مرحلة تحديد مصائر الإقليم ومصيرها أيضا هو دور شديد الأهمية والحيوية وانه مشروط بادراك قانونياتها الخاصة والأدوار المناطة بقواها الوطنية ومدى استعدادها وقدرتها على التوحد وصولا إلى النجاة وإلى النصر.؟؟