رسالة القاهرة - ابراهيم البدراوي رسالة القاهرة - ابراهيم البدراوي

عن مشروع الشرق الأوسط الجديد -1-

في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي خرج أصحاب فقه التبعية علينا بضرورة الإعداد مصرياً وفرنسياً للاحتفال بمرور قرنين على الحملة الفرنسية على مصر التي قادها نابليون بونابرت عام 1798 (أي بعد فترة وجيزة على انتصار كبرى الثورات البرجوازية).

وقد ألحقت هزيمة نكراء بهذه الدعوة وفضح أصحابها. ولم يطالب أصحاب فقه التبعية طبعا بالاحتفال عام 2001 بمرور قرنين على طرد الغزاة الفرنسيين من أرض مصر.

أثناء الحملة الفرنسية وتحت أسوار مدينة عكا الفلسطينية التي حاصرها بونابرت بجيشه ولم يتمكن من اقتحامها، وجه نابليون خطاباً شهيراً ليهود العالم واعداً إياهم بوطن قومي في فلسطين وبذلك تكون دعوته قد سبقت مشروع (هرتزل) عن الدولة اليهودية بقرن كامل.

هنا نكتشف جذر المشروع الصهيوني ودولته اليهودية التي تجسد أبشع استعمار استيطاني عنصري إحلالي وهو أن هذا المشروع هو الابن البكر للرأسمالية التي انتصرت في أوربا، ولذلك فلا ينبغي أن نصاب بالصدمة أو حتى بالدهشة حينما يعلن الأعداء الامبرياليون والصهاينة عن مشاريعهم واستراتيجياتهم أو حملاتهم العسكرية على بلداننا، بل ينبغي أن نشرع وعلى الفور لانجاز مشروعنا للمقاومة ومشروعنا للنهضة وهما في الحقيقة مشروع واحد.

الرأسمالية والحقب الاستعمارية

كل ما واجهناه ونواجهه على مدى ما يزيد على قرنين من الزمن إنما يأتي في سياق المشروع الأصلي أي سيطرة البلدان الرأسمالية الغربية على منطقتنا. فالرأسمالية كما هو معلوم لا تستطيع البقاء على قيد الحياة سوى بالتوسع والمزيد من التوسع على حساب الآخرين.

ولذلك فان إقامة الدولة اليهودية في فلسطين هي من صميم التوسع الرأسمالي ووسيلة من وسائله، الدولة اليهودية هي تحديدا الغرب الرأسمالي في الشرق العربي الإسلامي.

والسلام المطروح مع هذا الكيان هو الاستسلام للامبريالية والصهيونية، هو سلام الرأسمالية الإمبريالية والصهيونية ودمار بلداننا وشعوبنا.

وفي سياق التوسع الرأسمالي كان غزو واحتلال أفغانستان وبعدها العراق؛ كان يراد له أن يكون نقطة الانطلاق لإطباق الهيمنة دون مقاومة من الشعوب، ولكن الموضوع تعثر بفضل المقاومة العراقية والأفغانية. ثم كان العدوان الوحشي على لبنان في يوليو الماضي، وهو حرب أمريكية صهيونية مدعومة من أطراف عربية ولبنانية. كانت هذه الحرب باعتراف الأمريكيين أنفسهم هي نقطة الانطلاق للتوسع الرأسمالي الامبريالي بمساعدة الكيان الوظيفي. هذا التوسع المتمثل في مشروع الشرق الأوسط الجديد. لكن المقاومة البطولية التي قام بها حزب الله مدعوما بالقوى الوطنية اللبنانية والتأييد السياسي الصلب والمبدئي السوري– الإيراني والهالة الشعبية الجماهيرية العربية الهائلة المؤيدة للمقاومة والشعوب الخيرة والقوى التقدمية كانت زادا لحزب الله في مقاومته وصموده. وتم إلحاق هزيمة مدوية بالكيان الصهيوني وبخط الاستسلام وفقه التبعية. وتوقف المشروع ( ولكن إلى حين). 

جوهر المشروع

البدايات الأولى لطرح هذا المشروع (القديم الجديد في جوهره) كان في مؤتمري مدريد والدار البيضاء؛ وتم الربط بينه وبين السلام.

وكان جوهره هو السلام بالمفهوم الصهيوني؛ وهو يعني فرض الاستسلام الكامل وغير المشروط على العرب؛ وإطلاق الدور القيادي الصهيوني للمنطقة دون قيود.

في مدريد كان المشروع ملتبسا وغامضا؛ إذ تم الاكتفاء بإبراز أن تنفيذه يسير بالتوازي مع التقدم على طريق السلام دون وضع أولويات.

أما في الدار البيضاء فقد نصت الوثائق والتصريحات الإسرائيلية بأنه شرط تحقيق السلام، وهو لتحقيق السلام (الإسرائيلي) واستمراره.

لكن الجوهر والمحتوى الحقيقي يتجاوز ماتم طرحه في مدريد أو في الدار البيضاء، فتفاصيله تؤكد أنه النقيض الكامل لأي مشروع نهضوي لبلدان وشعوب المنطقة فهو ينتمي في الواقع لتلك الحلقة الجهنمية للتدمير المتوالي لأي مشروع نهضوى منذ مشروع محمد علي حتى مشروع جمال عبد الناصر. وهو بمثابة حائط صد حقيقي للحيلولة دون تكرار أي نهوض مستقل. وهو في واقعه امتداد لوعد بلفور. كما أنه المرحلة الأخيرة على طريق إقامة إسرائيل الكبرى المسيطرة إقليمياً. وهو الاستكمال لاتفاق (سايكس–بيكو) لتجذير التجزئة والتفتيت للبلدان العربية وباقي بلدان المنطقة؛ بما في ذلك مصر العصية على التجزئة لظروف جغرافية وتاريخية وذلك عبر زرع التناقضات بين البلدان المختلفة بعضها وبعض وداخل كل بلد بين مكوناته العرقية والمذهبية، بحيث تتخلق عشرات الكيانات القزمية على أسس دينية ومذهبية وعرقية وطائفية أو حتي قبلية؛ بحيث يسهل التحكم فيها بواسطة الكيان الصهيوني.

وهو مشروع نفي الهوية عبر ثقافات وقيم وتقاليد يتم تكريسها عن طريق الآلة الإعلامية الامبريالية الصهيونية الجهنمية، بهدف كنس منظوماتنا القيمية والثقافية والتقاليد الايجابية.

وزرع مؤسسات ونظم ومناهج تعليمية تفصل الطلاب عن الواقع وقيمه وتضعف اللغة، وصولاً إلى محاولات اجتثاث المعتقدات الدينية في حين يتم تجميل كل ما هو وافد من اتجاهات عنصرية وفاشية وصهيونية وصهيونية-مسيحية ، وإشاعة النزعة الفردية وطمس روح العمل الجماعي، وتشجيع التحلل الأسري والانحلال الأخلاقي بالفن الهابط وبكافة الوسائل، وإعاقة أي محاولات لتطوير كل ما هو مستنير ومتقدم وايجابي عموما في ثقافاتنا وتقاليدنا وقيمنا. انه النفي العدمي لكل ما لدينا من مكونات الهوية، بما يسهل تهميشنا ويجعلنا عرضة للانقراض.

هذا هو جوهر المشروع الكارثة، الذي ضم إلى دائرته إيران وأفغانستان، وهو مايحمل دلالات ذات طبيعة إستراتيجية سأتناولها لاحقا. 

ينبغي الانتباه إلى بعض الأمور

أولا – أن مشروع (الشرق الأوسط الجديد) امتداد للمشروع الاستعماري الرأسمالي الذي استهدف منطقتنا من قبل ، والذي يظهر في كل مرحلة بتجليات وتسميات وطموحات وأطراف معينة، وهو لب وجوهر الصراع العربي الامبريالي الصهيوني. هو امتداد للتوسع الرأسمالي عالميا، ولذلك فهو في قلب الصراع العالمي بين الشعوب من ناحية والامبريالية والصهيونية من ناحية أخرى. ولذلك فإن مقاومته ذات طبيعة طبقية ووطنية وقومية– إقليمية وعالمية في آن، وهي تعكس جدل الطبقي والوطني والقومي والأممي بكل ما يفرضه ذلك من تحالفات ونضال مشترك.

ثانيا: إن التحضير للمشروع جار على قدم وساق، بل أن بعض عناصره يجري تنفيذها. وما يجري في مصر شاهد على ذلك. فالانتقال السريع إلى اقتصاد السوق والأخذ بسياسة الخصخصة وبخس قيمة الأصول لصالح رأس المال الأجنبي والمحلي الكمبرادوري وما يسمي بحرية التجارة وسيطرة رأس المال الامبريالي المالي والصهيوني، وتخفيض قيمة الجنيه المصري ، وكنس الحقوق والمكتسبات الاجتماعية للطبقة العاملة وفقراء الفلاحين وسائر الكادحين بفرض قوانين لعلاقات العمل والعلاقات الزراعية والسماح بتملك الأجانب للأرض، واتفاقية الكويز وبيع البترول والغاز للكيان اليهودي بأسعار زهيدة، وإصابة الدور الإقليمي والدولي بالشلل والتطبيع مع العدو رغم كل مواقفه العدائية وشبكات تجسسه رغم اتفاقية السلام والصلح! ثم الترويج عبر الأبواق المأجورة والعميلة لفقه التبعية وشن الحرب ضد الثقافة الوطنية وثقافة المقاومة، واستخدام التمويل الأجنبي الموجه للعملاء تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان للترويج للأجندات الامبريالية والصهيونية ولأفكار الليبرالية الجديدة المتوحشة، ثم المواقف المشينة

ضد طائفة محددة وضد إيران وضد حزب الله قبل وأثناء وبعد حرب تموز الماضي.

ثالثا: إن النضال ضد هذا المشروع الكارثة هو بالضرورة ضد المشروع الرأسمالي الدولي والإقليمي والمحلي التابع ضد الامبريالية والصهيونية وعملائهما المجانين.

• البقية في الأعداد القادمة

آخر تعديل على الجمعة, 11 تشرين2/نوفمبر 2016 13:06