التعديلات الدستورية في مصر... نظرة من الداخل
في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي كان ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي قد استكمل قوة الدفع التي أوصلت البلاد إلى الأزمة العميقة والشاملة التي تعيشها ، كانت دفة السفينة قد استكملت استدارتها واستقرت على شاطئ التبعية الكاملة منذ فترة ( المشروع الرأسمالي التابع)، بعد أن امتلأت أشرعتها برياح الليبرالية الاقتصادية بكل وحشيتها.
تزامنا مع ذلك كانت أشرعة أخرى قد امتلأت برياح الغطاء الأيديولوجي المموه لليبرالية الاقتصادية وهي أيديولوجية (المجتمع المدني وحقوق الإنسان)، وقد تم إفراغ مضمونهما وأعيد تعبئتهما بمضامين جديدة تتطابق مع الخراب والتوجه الذي حدث. وانطلقت الدعوة هادرة للإصلاح السياسي والدستوري وفق الأجندة الامبريالية الصهيونية، وانجرفت أحزاب المعارضة للعمل على هذه الأجندة الخطرة. لكن الأخطر هو الاندفاع الأشد من قوى اليسار الذي تحول إلى النهج الإصلاحي رغم ما أبديناه من مقاومة ولعبت جماعات حقوق الإنسان والمجتمع المدني - التي امتلأت جيوبها وحساباتها بدولارات التمويل الامبريالي الصهيوني- وهي جماعات تعود جذورها إلى كل التيارات السياسية من شيوعية وناصرية وإسلامية وليبرالية، لكن القاطرة التي تقدمت كل هؤلاء كانت أساساً من الشيوعيين والناصريين.
في عام 1977 عقدت أحزاب المعارضة الرئيسية مؤتمراً حول الديمقراطية والإصلاح السياسي. وفي جلسة المؤتمر الافتتاحية ألقى رؤساء الأحزاب خطابات ليحدد كل منهم رؤيته للديمقراطية، حيث ركزوا جميعاً على مسائل الحريات السياسية والانتخابات.
في هذا المؤتمر قدمت في خطابي (كممثل للشيوعيين) طرحاً مختلفاً يربط الديمقراطية بجناحيها السياسي والاجتماعي بما هو طبقي وما هو وطني وما هو قومي. وهاجمت التبعية واقتصاد السوق والتمويل الأجنبي.. الخ. وخلصت إلى أن الديمقراطية تعني في النهاية أن تكون (كل الثروة وكل السلطة للشعب). وحظي هذا الخطاب بقبول من الحاضرين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية لم أتوقعه، لكنه ووجه بتجهم وتوتر الجالسين على المنصة ( أي رؤساء الأحزاب).
كان هذا المؤتمر هو تدشين الانتقال لمرحلة التكيف مع السلطة (خاصة من اليسار) وصولاً إلى مقايضة البرامج بتمثيل هزيل في مجلسي الشعب والشورى.
قد يرى البعض أن هذا المؤتمر لم يكن يتحمل طرحاً من هذا النوع، خاصة مع التنوع السياسي للحضور. ولكن المطلوب كان هو طرح التصورات عن الديمقراطية، من ناحية أخرى فإن مصر مرت وكانت تمر بحالة ردة تكنس كل المكتسبات الديمقراطية – الاجتماعية. كنت أطالب بحقوق قطعت مصر شوطاً في إرسائها ويتم التهامها.. هكذا كانت بداية الطريق الذي أوصلنا إلى الكارثة الحالية.
لقد ناديت في الصحافة، وناقشت أطرافا عديدة على مدى ما يزيد على عشر سنوات بأن قضية الإصلاح الدستوري وتعديل الدستور تحتاج إلى ميزان قوى يكون لصالح القوى الشعبية – وهذا غير متوفر- وأن الإصلاح الاقتصادي الذي تقوم به السلطة قد أتانا بالخراب وأن أي تعديلات للدستور سوف تكنس منه كل النصوص والمواد الايجابية (حقوق العمال والفلاحين – التنمية الشاملة – التخطيط – قيادة القطاع العام للتنمية، الخ)، وأن انتهاك هذه النصوص على مدى سنوات لايبرر السماح بإلغائها إذ يمكن في المستقبل محاكمة القائمين على هذه السلطة بتهمة انتهاك الدستور، وحذرت من أن تعديل الدستور سوف يؤدي إلى إضفاء شرعية دستورية على الواقع الراهن.
لكن نداءاتي ذهبت أدراج الرياح وانتصرت في النهاية أجندة التمويل الأجنبي بدعم اليسار الإصلاحي المرتد والسلطة التابعة.
لن أتوقف طويلاً لأجري شرحاً على المتون لفحوى التعديلات، بل سأعطي التوجهات والخطوط العامة لها في النقاط التالية:
1 - إن التعديلات قد أبقت على سلطات رئيس الجمهورية في عمومها، وكذلك فترة بقائه في السلطة وكانت المعارضة تطلب عكس ذلك.
2 – كنست التعديلات بالكامل أي ذكر لكلمة الاشتراكية أو القطاع العام ودوره القيادي، الخ. أي كنست كل ما هو ايجابي
3 – التعديلات ليست موجهة ضد الأخوان المسلمين وحدهم، ولكن التيارات السياسية في البلاد كافة، مع الإبقاء على التعددية الشكلية القائمة وأحزابها التي لا تمتلك أية قواعد شعبية
4 – أنها نصت على الانتخابات بنظام القائمة، مع حرمان غير الحزبيين من خوضها
5 – تأبيد الحكم بالطوارئ بشرعية دستورية ملتوية (قانون الإرهاب) وهو ما يؤدي إلى الاعتداء على الحريات وإلغاء أية ضمانات للمواطنين، والزج بهم بموجب قرارات جمهورية ليحاكموا أمام محاكم استثنائية، وتقليص دور القضاء في إصدار الإذن بالتفتيش والاعتقال، مع مد التجريم إلى الجميع وليس إلى أعضاء التنظيمات المحجوبة عن الشرعية فقط
6 - إن ما يعتبر انتقاصا من سلطات رئيس الجمهورية لصالح الحكومة ورئيسها، وكذا سلطات مجلس الشعب فيما يخص الموازنة العامة فإن ذلك يأتي في إطار التمكين للطبقة المهيمنة الغاصبة للثروة والسلطة، خصوصا في إطار تجميد الحياة السياسية والحزبية
7 - كما تضمنت التعديلات توسيعا لصلاحيات الرئيس الذي يحق له حل مجلس الشعب دون إجراء استفتاء على الحل عكس ما كان معمولا به
8 - وأخيرا فان هذه التعديلات قد ضمنت تمرير توريث رئاسة الجمهورية إلى جمال مبارك وهذه أكبر كارثة تواجه الوطن
يمكن استخلاص ما يلي من هذه الفاجعة:
أ - إن طبقة الكمبرادور الحاكمة صادرت تماماً إمكانية التطور السلمي للبلاد بإضفائها لشرعية دستورية على الواقع الراهن، وهو ما نبهنا له طوال أكثر من عشر سنوات
ب - الحياة السياسية والحزبية الراهنة أصابها الخراب، ورغم ذلك فإن السلطة تعيق قيام أحزاب جديدة تضفي حيوية على الوضع السياسي المتردي في البلاد، وبالتالي فقد سقطت تماماً ادعاءات إمكانية إصلاح هذا النظام الذي بات عصياً على الإصلاح
ج - نتيجة لذلك فإن الضغوط الخارجية (الامبريالية الصهيونية) لتدمير ما تبقي من مقومات بقاء الكيان الوطني، وتدمير ما تبقى من مقومات حياة الشعب، والضغوط الشعبية الداخلية (الإضرابات والاحتقان الشعبي المتصاعد) من أجل الحقوق المهدورة. وإن استمرار هذين الأمرين من شأنه أن يصوغ معادلة خطيرة، وهي أن البلاد تقترب من أحد احتمالين: إما الانهيار إذا ما غلبت الضغوط الخارجية وإما الانفجار إذا ما غلبت الضغوط الداخلية وهو ما يضع استحقاقات هائلة وعاجلة
د- ولذلك، فإن البلاد في ظروف انحطاط الحالة السياسية والحزبية الراهنة، يمكن أن تدخل إلى (الفوضى الخلاقة) حسب التعبير الأمريكي، وهو ما سيحدث كارثة قد تستمر فترة طويلة، وتلقي بآثارها المدمرة على بلداننا العربية كلها
هـ - بعد أن خرج اليسار المرتد والمتمولون من المعادلة وانتقاله إلى مواقع الإصلاحية فإن على القوى الوطنية الجذرية الحريصة على سلامة الوطن أن تلتحم بالقوى الشعبية والتقدمية، وأن ينهض الجميع بالاستحقاقات التي تفرضها مهمة حماية الكيان الوطني ومصالح الشعب قبل أن تحل الكارثة
و – إن البرنامج السياسي الذي يحتاجه الوطن والشعب لابد أن يجمع في كل واحد ما هو طبقي ووطني وقومي واقتصادي-اجتماعي وديمقراطي، أن يكون منحازا لعشرات الملايين من أبناء الشعب الكادحين وهذا ما يعجل في حشد القوي الشعبية حوله باعتباره برنامجا يتجاوز المشروع الرأسمالي التابع (حيث لايمكن في الظروف الراهنة ولا في المستقبل انجاز مشروع رأسمالي على أساس من الاستقلال الوطني)
ز- ولابد أخيراً من الحيلولة دون أي اختراق للصف الوطني من جماعات المتمولين إمبريالياً وصهيونياً ومن دعاة التطبيع مع العدو ومن قوى الليبرالية الجديدة المتوحشة، ومن الإصلاحيين الذين سهلوا على سلطة الكمبرادور انجاز تخريبها وتجميل وجهها القبيح.
إن الحقوق تؤخذ ولا تمنح...!