«التفعيل» بـ«التعديل»
على قرارات «قمة الرياض»، اختلفت ردود الأفعال، وتمايزت التحليلات، وتعددت التوقعات، وتباينت الرهانات، فمدحَ مَن مدَح، وقدحَ مَن قدَح، واحترس مَن احترس، ورهنَ موقفه بالترجمات العملية للقرارات مَن رَهَن، لكن الجميع رأى في قرار تشكيل لجنة برئاسة السعودية لتفعيل «المبادرة العربية» بعد التأكيد عليها، القرار الأهم، وهذا صحيح لأنه يمثل الموقف الرسمي العربي الراهن مِن الملف الأهم، أي ملف الصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية التي مضى ستون عاماً على «نكبة» شعبها، وأربعون عاماً على «هزيمة»، (عفوا «نكسة») احتلال ما تبقى مِن أرضه، أما مصير قرار «التفعيل» هذا، فإن على المرء في التنبؤ به، الاحتكام إلى:
تجربة التاريخ الذي لا صدقية لغيره أولاً، وإلى منطق العقل ثانياً، وإلى النأي عن رغبية الهوى ثالثاً، لأن الهوى «غلاب» ويحجب الحقيقة المرة أحياناً كثيرة، بل طالما حجبها عنا نحن الفلسطينيين، (مع شديد الأسف)، فيما توقعناه وتوخيناه مِن قرارات عربية رسمية سابقة وكثيرة.
في هذا السياق، ولأن قرار «التفعيل» هو خيار لتجديد الاستعداد للسلام والرغبة به كخيار إستراتيجي، ولأنه خيار وحيد بدون بديل رغم رفض الطرف الثاني للصراع له، ولأنه خيار مفتوح بدون جدول زمني لنفاذ صلاحيته، ولأنه خيار اجترار الرهان ذاته على أمل «حيادية» القوة الأمريكية الباغية ذاتها، ولأنه خيار إعادة فحص المفحوص مرات ومرات مِن «استعداد» القيادة الإسرائيلية لعقد تسوية سياسية متوازنة، وحاشا لله أن نقول عادلة، ولأنه خيار ذهني لم يراجع حقائق تجربة عقود تلت حرب عام 1973 تقول:
في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، أي في مرحلة «ثنائية القطبية»، وبالملموس في مرحلة وجود قوة الاتحاد السوفييتي قبالة القوة الأمريكية في السياسة والعلاقات الدولية، كان سؤال يدور ويقول:
مع افتراض جدلي بتوفر الاستعداد الإسرائيلي لعقدِ تسوية سياسية للصراع العربي الإسرائيلي وجوهره القضية الفلسطينية، وفي حال حصول هذه التسوية، ترى كيف، ولصالح مَن ستكون نتائجها النهائية؟!!! يومها قيل أنه، وبرغم وجود المعادل السوفييتي في مواجهة القوة الأمريكية، فإن ميزان القوى بالمعنى الشامل يبقى راجحاً لصالح إسرائيل، ولذلك فإن أية تسوية سياسية في ظلِّه ستكون مائلة لصالحها. تلك حقيقة استندت إليها القيادة الإسرائيلية، وأبرمت في ضوئها تسويتها مع مصر، ولكنها أدارت الظهر لخيار إيجاد تسوية سياسية لجوهر الصراع، القضية الفلسطينية.
إن تلك الحقيقة فضلاً عن قوة الحراب الإسرائيلية وتشغيلها مثنى وثلاث ورباع، هي ما أعطى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وبألوانها الحزبية المختلفة، فرصة تجسيد الكثير مِن رؤيتها التوسعية العدوانية حقائق على الأرض، أي حقائق اقتلاع ما أمكن اقتلاعه بالتهجير والطرد مِن الفلسطينيين، وابتلاع ما أمكن ابتلاعه بالاستيطان والمستوطنين مِن أرضهم. إنها الحقائق التي يجري اليوم المساومة مِن خلال «مكرمة» «التخلي» عن فتات منها لقاء إغلاق ملف القضية الفلسطينية وتحقيق «التطبيع الشامل أولاً» مع الدول العربية.على ضوء تلك الحقيقة الدامغة نقول:
إن ميزان القوى بالمعنى الشامل، أي ليس الدولي فقط، بل والمحلي بمعنى مدى «تفعيل» كل طرف مِن أطراف الصراع لمقدراته وإمكانياته وعوامل قوته العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية والعلمية...الخ، هو العامل الأساسي الذي يحدد المعالم النهائية لأية مفاوضات، ويطبع محتوى أية تسوية سياسية تفضي إليها بميسمه؛ نقول على ضوء تلك الحقيقة التي على العقل الإقرار بها رغم مرارتها، وبالنظر إلى راهن إنفراد واشنطن وتسلطها الذي عزز تفوق ربيبتها إسرائيل، تغدو الأسئلة المفتاحية التالية مشروعة:
مع هذا الاختلال الهائل في ميزان القوى، ترى ما الذي يجبر القيادة الإسرائيلية على الاستجابة لاشتراطات «المبادرة العربية» وقرار تفعيلها؟!!! ولماذا لا تتمترس خلف عنجهية رفضها، ومحاولة تجويفها عبر آلية تحويل «التفعيل» إلى «تعديل» على مقاس الرؤية الإسرائيلية؟!!! وأليس هذا هو الممكن الوحيد في حال وقع العرب في فخ إخضاع مبادرتهم للتفاوض باعتبارها رؤية لهم مقابل ما لدى الطرف الثاني للصراع مِن رؤية غدت واضحة كعين الشمس؟!!!
إن راهن ميزان القوى بالمعنى الشامل، وبرغم مصاعب السياسة الأمريكية الإسرائيلية في العراق ولبنان وفلسطين ومع إيران، وبدون «تفعيل» بالمعنى الشامل للمقدرات العربية، أو التلويح بهذا «التفعيل» على الأقل، وليس «تفعيل» مبادرة رغبتهم في السلام فقط، لا يعطي فرصة لتحقيق تسوية سياسية ولو متوازنة، وإنه الوهم بعينه الرهان في ظلِّ راهن ميزان القوى على تغيير القيادة الإسرائيلية لثوابتها، بل ويتحول (الرهان) إلى مقامرة، إن هو أخضع ملفات بوزن حق العودة والقدس والحدود والمياه والمستوطنات، وفي ظل ما هو قائم مِن ميزان للقوى، إلى تفاوض مباشر بين رؤيتين.
وباستعارة لمقولة الثابت والمتحول لاستقراء مصير قرار «تفعيل» المبادرة العربية على أمل التوصل لتسوية سياسية للصراع، فإنه، وبرغم أن في مسيرة طرفي الصراع ما هو ثابت وما هو متحول، وبرغم بديهية أن الثبات نسبي والتحول مطلق، فإن الموقف الإسرائيلي مِن القضية الفلسطينية ظل ثابتاً برغم كل ما طرأ على الموقف العربي مِن تحول. وبالإشارة إلى ثبات الموقف الإسرائيلي مِن القضية الفلسطينية، يستحضرني ما كان قاله موشيه ديان في نوفمبر عام 1967 في لقاء له مع وجهاء مدينة نابلس، حيث قال ما يلي:
هنالك تياران في إسرائيل لا ثالث لهما، ويخدعكم مَن يقول غير ذلك، سواء كان منا أو منكم. أما التيار الأول، فيرى: إن ما هو لنا، أي لإسرائيل هو لنا وحدنا، وأن ما هو لكم، أي للفلسطينيين، هو لنا وحدنا أيضا، وهذا هو تيار اليمين؛ أما التيار الثاني، فيرى: إن ما لنا، أي لإسرائيل، هو لنا وحدنا، وأن ما لكم، أي للفلسطينيين هو لنا ولكم، وهذا هو تيار اليسار الصهيوني بكل ألوان طيفه السياسي.
تلك رواية رواها المرحوم حمدي كنعان، وكان رئيساً لبلدية مدينة نابلس في حينه، للمرحوم الشهيد ماجد أبو شرار بحضور صديق رواها لي قبل أسابيع، وأضاف أن المرحوم كنعان أكد في حديثه مع الشهيد أبو شرار تطابق أقوال ديان مع حركة الوقائع الإسرائيلية على الأرض.
والسؤال اليوم، ألم يحوّل بن غوريون وديان ما قاله الأخير آنفا إلى سياسة ثابتة وممارسة، وإلى تكريسها وقائعَ على الأرض؟!!! وأليس ذاك ما كان مِن سياسة لمَن جاء بعدهم بدءاً برابين وبيريس، مروراً ببيغن وشامير، عرجاً على شارون وباراك ونتنياهو، وصولاً إلى أولمرت وليفني؟!!!
بلى، هذا ما كان، ويعكس بالوقائع على الأرض مقدار الثابت في الموقف الإسرائيلي مِن القضية الفلسطينية، تلك الوقائع التي يدعو القادة الإسرائيليون العربَ اليوم لأخذها بعين الاعتبار كحقائق لا تتزحزح، وكأن لسان حال القادة الإسرائيليين يقول:
على كل طرف مِن طرفيْ الصراع أن يحصد مِن التسوية بمقدار ما زرع مِن «تفعيل» لمقدراته بالمعنى الشامل، وأن ما ترتب على ذاك الزرع مِن ميزان للقوى، فضلا عن «جور» حقبة التفرد الأمريكي، لا يتيح غير هذه الحصيلة مِن الحصاد؛ بل إن الشرط الإسرائيلي ب«التطبيع أولا» في مقابل «تفعيل المبادرة العربية» بشرط «السلام أولا»، ينطوي على ما هو أخطر، إذ كأنه يقول:
هذا ما لدينا، فإما أن يكون «التفعيل» بـ«التعديل»، وإما مواصلة تشغيل الحراب التي يبدو أنها ستشتغل عما قريب في غزة. أما مَن يصر على إبقاء جرح اقتتال غزة الداخلي نازفاً، وإن بأقل مما كان قبل تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة، فليته ينتبه إلى ما هو قادم مِن جولة موجعة ودامية للصراع، وليته يعي أكثر أن مَن يرفض التعامل مع الحكومة الفلسطينية الوليدة، ومَن يرفض الاستجابة إلى «تفعيل» المبادرة العربية إلا بدهاء تحويل «التفعيل» إلى «تعديل»، لا يبقى أمامه إلا ممارسة لغة سياسته الأعنف، أي تشغيل الحراب، وذلك بهدف الضغط لتعزيز سياسة «التفعيل» بـ«التعديل».