حوار الأديان.. أم الإذعان؟!

«هناك في منطقتنا من ينشرون الكراهية ويحاولون تعميق الهوة وإقامة الحواجز.. أولئك الذين يسعون إلى سجن الآخرين والتشجيع على القتل، وللوقوف في وجه أولئك الذين يثيرون مثل هذا العنف والفوضى، يجب أن نرفع شعار الأخوة والسلام، وسيؤدي هذا إلى إنهاء العديد من الصراعات وتوفير السلام الشامل لجميع الشعوب والحرية الحقيقية، وسيفضي إلى إقامة علاقات اقتصادية وثقافية وظهور رؤية جديدة للمنطقة بأكملها».

للوهلة الأولى، قد يظن المرء بأن قائل هذا الكلام أحد الحاصلين على جائزة نوبل للسلام، أو ممن أفنى عمره في نشر تعاليم الحوار والتسامح وقبول الآخر، ولكن حتماً سيتعدى بشعوره الصدمة، حين يعلم بأن هذا الكلام جاء على لسان رئيس الكيان الصهيوني (شمعون بيريز) السفاح المعروف بتاريخه الدموي ومجازره الفظيعة، (مجزرة قانا الأولى مثالاً) في معرض كلمته التي ألقاها في مؤتمر حوار الأديان المنعقد في مقر الأمم المتحدة بنيويورك.

مؤتمر حوار الأديان هذا الذي انبرت الأمم المتحدة لتنظيمه بدعوة ومبادرة من الملك السعودي (عبد الله) بمشاركة وفود من 70 دولة، ترأس 17 منها رئيس دولة أو حكومة، جاء كخطوة تالية لإعلان (مدريد) الصادر في ختام المؤتمر العالمي للحوار الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي، والذي حمل في طياته أبعاداً متشعبة وخطرة تحمل الكثير من علامات الاستفهام.

وبالعودة لمؤتمر حوار الأديان، فقد صرح مصدر سعودي قبيل انعقاد المؤتمر (بأن الاجتماع لا يهدف إلى حل الصراع العربي الإسرائيلي، وإنما يتوجه إلى أهداف أكبر من حيث تعزيز التعاون بين أتباع الديانات، وجعل الأديان سبباً للتعاون والاتفاق، بعد أن ظلت لمئات السنين سبباً للصراعات)، وأضاف المصدر: (لاحظنا الاهتمام اليهودي بدعوة الملك التاريخية، وهو اهتمام يساعد في تحقيق أهداف المصالحة التاريخية بين كل الأديان، ولكن المبادرة ليست سياسية).. وركز على قوله: (إن الصراع العربي - الإسرائيلي صراع على الأرض والحقوق وليس صراعاً بين المسلمين واليهود، وهذه الرسالة نبلغها باستمرار إلى قيادات الجالية اليهودية في الولايات المتحدة المهتمة بعملية السلام، من أجل تفعيل تيار قوي يضغط على الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية للقبول بالمبادرة العربية السلام التي أعلنها الملك عبد الله عام 2002م). والغريب أن الدعوة السعودية تزامنت مع دعوة رئيس الكيان الصهيوني لبدء مفاوضات مع العرب حول مبادرة السلام العربية بعد الرفض الإسرائيلي الكامل لها والرد عليها باجتياح (رام الله) 2002م وحصار الرئيس الراحل (ياسر عرفات).

هل يعتبر هذا خفضاً لسقف المواقف العربية؟ فالمبادرة العربية وكما أعلنتها قمة بيروت شددت على كونها أساساً للتطبيق، وليس للتفاوض عليها، فهل هناك ما يجري حالياً وراء الأكمة؟

القبول بتمثيل (إسرائيل) بشخص رئيس الدولة لا يعد اعترافاً سياسياً واضحاً بكونها دولة وحسب؟ بل لعل المسألة أخطر من ذلك، فما جرى هو اعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، وبأن التحاور معها سيتم على أساس أنها كيان ديني ممثل لليهود.

ألا يمنح ذلك شرعية لما تقوم به (إسرائيل) من تهديد واستيطان وطمس للمعالم الإسلامية والمسيحية في فلسطين، والتي كان آخر ابتكاراتها إقامة متحف لتاريخ الأديان مكان مقبرة السلام في القدس، أم أن ذلك غاب قصداً عن ذهن (خادم الحرمين الشريفين).

ألا ينطوي كل ما تقدم ذكره على الكثير الكثير من معاني التطبيع مع الكيان الصهيوني على مختلف الأصعدة وهو ما برز في تصريح وزيرة الخارجية الإسرائيلية (تسيبي ليفني) التي أدلت به لتعقب على المؤتمر (يجب العمل مع العرب لمحاربة الخطر الكامن في ما يدرس في المدارس والمساجد العربية).. أإلى هذا الحد وصل الإذعان بالمهرولين (المعتدلين)؟.

مؤتمر حوار الأديان، مؤتمر سياسي مشبوه بامتياز من حيث الشكل والمضمون، فهو يقدم أعظم خدمة مجانية للكيان الصهيوني في الوقت الراهن من حيث الاعتراف بدولة (إسرائيل)، وبمبدأ الدولتين المتباينتين في كل شيء، فالأولى قوية و(صافية دينياً و«قومياً»)، والثانية (مخترة) مفتتة الأوصال، ومحاصرة، ومحرومة من جميع مظاهر ومضامين السيادة الوطنية، ويغرق أبناؤها في النزاعات الدموية..

إن المؤتمر جاء تلبية للرغبة الإسرائيلية في التفاوض دون تقديم أي اعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، أو تنازل سياسي أو جيوسياسي، ويظهرها للعالم بمظهر الراغب في السلام.

مؤتمر حوار الأديان.. مؤتمر حوار الأنظمة المسلوبة الإرادة.. وأبرز الغائبين عنه الشعوب المضطهدة... والأديان.