كوارث «الحزن» الوطني

عقب انتهاء المؤتمر السنوي لـ«الحزن الوطني»، حزب المماليك الجدد الحاكم المشهور باسم «الحزب الوطني الديمقراطي»، أعلن جمال مبارك أمين لجنة السياسات بهذا الحزن عن مشروع يعتبر المرحلة الكبرى الأخيرة في تدمير الوطن.

المقدمات

قبل حوالي عشر سنوات أعلن عاطف عبيد رئيس الوزراء حينئذ وبنشوة شديدة في تصريح غير مبرر عن قيمة الأصول المصرية (وأوضح أنها كل مصر)  التي قدرها  بعدة تريليونات من الدولارات. لحظتها أحسست بالمصير الرهيب الذي يسوقنا إليه المماليك الجدد، لأن الأوطان لا يتم تقييمها بالمال، ولأن قداسة الوطن تمنع مثل تلك التصورات والتصريحات.

 

أول الغيث قطرة

قبلها بسنوات أثناء تولي د.عاطف صدقي رئاسة الوزارة والذي تمت إقالته لعدم تحمسه للخصخصة، كان عاطف عبيد وزيراً، وتم الإعلان عن قيمة الأصول المتمثلة في القطاع العام التي قدرت حينها بمبلغ 500 مليار جنيه مصري، وذلك قبل تعويم الجنيه المصري وانخفاض قيمته إلى النصف تقريباً، أي أن القيمة الآن هي حوالي تريليون جنيه مصري.

باعوا من القطاع العام حوالي 150 شركة تمثل 40 % من وحداته وبقيت حتى الآن 217 شركة أي حوالي 60 % من وحداته في انتظار البيع، من بينها القلاع الصناعية مثل شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى وشركة الحديد والصلب ومجمع الألمنيوم.. الخ، وكذلك بنكي مصر والأهلي..الخ، وحسب التقييم الرسمي المعلن مؤخراً لهذه الثروة الهائلة فقد قدروا قيمتها بمبلغ 200 مليار جنيه مصري، أي 100 مليار جنيه (قبل تعويم الجنيه). وبمقارنة بسيطة لهذه الأرقام، وربط ذلك بما يتردد عن العمولات التي تم تقاضيها والتي يقدرها البعض بما يقارب 50 مليار دولار، يتبين حجم الكارثة!

لكن القضية كانت ولا تزال في رأينا ليست هي الفساد والعمولات والثمن البخس، ولكنها في مبدأ البيع ذاته الذي نعارضه حتى ولو كان مقابل ثمن عادل مهما بلغ حجمه.

كان التأميم استرداداً لثروات منهوبة. ويكفي أن نعلم أنه في أربعينيات القرن العشرين كان من بين أعضاء الجالية اليهودية الصغيرة في مصر (30 ألف يهودي) كانت هناك 50 أسرة تسيطر على 34 % من الشركات المساهمة في كل فروع الاقتصاد، والغالبية الساحقة من المتبقي كانت تحت سيطرة الأجانب من كل شاكلة وطراز. قس على ذلك باقي الاقتصاد خارج الشركات المساهمة. لقد كانت مصر قبل يوليو1952 فعلياً ملكاً لغير المصريين الذين وفدوا إلينا دون أن يمتلكوا غير ملابسهم، وسلبوا الثروة عنوة وبأحط الحيل في حماية حراب الاحتلال. الآن يتم سلب الثروة طوعاً وبأحط الحيل وتؤول للأجانب وذيولهم المصريين.

 

ملحمة القطاع  العام

لقد تم التأميم وبناء وتوسيع القطاع العام وزيادة حجمه إلى عشرات الأضعاف عبر ملحمة وطنية كبرى، بدءاً من معركة مشروع السد العالي وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي عام 1956 وتمصير(تأميم) الممتلكات البريطانية والفرنسية، إلى تأميم بنكي  مصر والأهلي عام 1960 في مواجهة مقاومة وتهديد مجلسي إدارتهما بسبب الشروع في خطة التنمية الخمسية الأولى، إلى تأميمات 1961 الكبرى، وما أعقب ذلك أثناء مساعدة مصر لثورة اليمن حيث الدور التآمري السعودي خدمة للمصالح الإسرائيلية– الأمريكية في استنزاف مصر. وكان عدوان 1967 هو ذروة مواجهة مشروع النهضة التحرري والتقدمي الذي قاده جمال عبد الناصر والذي كان القطاع العام من أهم أركانه. واستمرت التنمية بعد العدوان، وتمت حرب أكتوبر المجيدة. لقد أكلنا وشربنا وتعلمنا وعملنا وحاربنا وانتصرنا وسندنا الرئيسي هو القطاع العام الذي اغتالته الطبقة الحاكمة الحالية.

 

القادم أفدح..

ما أعلنه جمال مبارك وأركان الطبقة الحاكمة في لجنة سياسات «الحزن الوطني» أفدح، ويبين أن الخصخصة والتدمير اللذين تما لم يكونا أكثر من الجزء الصغير الظاهر من جبل الجليد العائم.

مثلما بدأت الخصخصة بشعار كاذب هو «توسيع قاعدة الملكية» الذي سرعان ما تلاشى وتم البيع غالباً لمستثمر أجنبي واحد، يبدأ المشروع الجديد بنفس الشعار بهدف تضليل الناس الذين يعترضون على الخصخصة وكل سياسات السلطة. فأطلقوا على خطوتهم الجديدة اسم «برنامج إدارة الأصول»، الذي يقوم على توسيع مفهوم الأصول المنحصر عملياً الآن في شركات القطاع العام ليمتد إلى كل الشركات القابضة ومياه النيل وبحيرة ناصر وشواطئ مصر. وبالتأكيد فهذه مجرد البداية التي سوف تمتد إلى الجامعات والطرق والسكك الحديدية وقناة السويس والسد العالي.. الخ، أي كل مساحة الوطن (الأرض وما فوقها وما في باطنها) ذلك أن الطرح الغامض للأصول هو بمفهومهم الوطن بأسره الذي سيتم التصرف فيه. وهي كارثة لم يعرف الوطن لها مثيلاً.

عمليات الخداع والنصب والتضليل المكشوفة تتمثل في الإعلان عن منح صكوك لحوالي 41 مليون مصري بالتساوي (تصل لحوالي 800 جنيه للفرد كما أعلن) مع احتفاظ الدولة بنسب متفاوتة من قيمة هذه الأصول. بعدها بطبيعة الحال يتم سلب هذه الصكوك الوهمية من المواطنين مثلما حدث في روسيا على يد يلتسين وينفتح الباب أمام بيع ما بيد الدولة. ويسقط كل شيء في يد رأس المال الامبريالي والصهيوني وذيولهما المحليين. وبشكل أكثر اتساعاً بما لا يقاس عما كان عليه الحال في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

لقد علمتنا التجربة وممارسات السلطة كيف تبدأ الأمور وكيف تنتهي. فلقد بدأت عملية الخصخصة ببيع الوحدات الصغيرة المملوكة للمحافظات، ثم جرى التصعيد في البيع وصولاً إلى الوضع الراهن.

لن نقبل الخدعة ولن نقبل ما وراءها

يظن جمال مبارك وأركانه أن خدعة الصكوك سوف تعطيه قبولاً شعبياً لتمرير التوريث. لكنهم جميعاً واهمون، لأن جمال مبارك لا يحظى بأي قبول شعبي.

ذهبت كتابات عديدة كل مذهب في وصف الكارثة الحالية، لكن قضية القوى الوطنية المدركة لمسؤولياتها لا ينبغي أن تكتفي بوصف الواقع. ذلك أن المنوط بها هو تغيير هذا الواقع وإنقاذ الوطن ووقف تدميره بالكامل.

لقد تمت عمليات مقاومة جادة للخصخصة وكنس الحقوق الاجتماعية وانحسار دور مصر الإقليمي والدولي، ولكل السياسات التدميرية المتبعة والمتصاعدة. ولكن المقاومة لم تكن بالقدر الكافي لوقف التدهور.

الآن يتم الانتقال إلى حالة نوعية جديدة هي تدمير الوطن بالكامل وتسليمه للإمبريالية والصهيونية بشكل مطلق. لذا لم يعد هناك مجال للتقاعس أمام استحقاق «إنقاذ الوطن»، وإلقاء هذه السلطة في مزبلة التاريخ، وإرساء سلطة وطنية تقدمية جديدة منحازة للكادحين والوطن.

الآن.. إنقاذ الوطن هو الأولوية الأولى المقدسة.