رسالة القاهرة رسالة القاهرة

الهجوم على الأستاذ هيكل... لماذا؟

فجأة أشعل الحكوميون من أشباه الساسة والصحفيين والمثقفين، معركة حامية الوطيس ضد الأستاذ محمد حسنين هيكل. لا اكتب هذا المقال للدفاع عنه فهو قادر على الدفاع عن نفسه، وفي هذه المعركة بالذات هو ليس بحاجة إلى دفاع، وهو غالبا ما يترفع عن ذلك إزاء أمثال هؤلاء.

لكن الأهم هو التدقيق في أسباب هذا السعار بسبب ما قاله الأستاذ هيكل على قناة الجزيرة، وما يحمله من دلالات عميقة شديدة الأهمية، في المضمون والتوقيت على السواء.

الأستاذ هيكل في توقيت ما قال، لم يتحدث في إطار ظروف طبيعية تمر بنا، وإنما في ظروف أطبقت علينا فيها أزمة لا سابق لها، تدفع بنا عنوة وبقوة- إذا ما تركناها تستمر- إلى سحقنا وإنهاء وجودنا ذاته.

وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا إذاً هذه الحملة الهائلة وكل هذا الضجيج والاسفاف الشديد ضد الأستاذ هيكل؟

أستطيع أن استخلص سببين رئيسيين وراء ذلك، أولهما خاص بالتجربة التاريخية لشعبنا ومنطقتنا العربية بأسرها في الصراع الطويل والممتد ضد الأطماع الاستعمارية، وثانيهما ما يخص رئيس الجمهورية بشكل شخصي، ونتناول الأمرين تباعاً باختصار.

أولاً: عن التجربة التاريخية

بقدر تعقيدات الصراع بين قوى الهيمنة الإمبريالية من ناحية والشعوب من ناحية أخرى، تعددت الوسائل والأدوات المستخدمة من أطراف الصراع.

في الظاهرة الاستعمارية المصاحبة للتوسع الرأسمالي، كان الاستعمار القديم المعتمد على القوة العسكرية والاحتلال العسكري المباشر هو الوسيلة الرئيسية وربما الوحيدة لفرض الهيمنة، ومع انتعاش حركات التحرر الوطني في أواسط القرن العشرين وقوة الدفع الهائلة التي اكتسبتها هذه الحركات، وفي ظل ميزان قوى دولي كان يميل حثيثاً لصالح الشعوب، انتهى عصر الاستعمار القديم، لكن الإمبريالية سرعان ما توسعت في أساليب الاستعمار الجديد القائمة أساسا على الهيمنة الاقتصادية.

لكن الإمبريالية تدرك أن تأبيد الهيمنة الإمبريالية يحول دونها نضال الشعوب التحرري وعدم استسلام الشعوب حتى في ظل تغير ميزان القوى لصالح الإمبريالية. إن دورة الصراع تتجدد، رغم أن العولمة الرأسمالية وهي المرحلة العليا الراهنة في تطور الإمبريالية تستخدم أساليب الاستعمار القديم والجديد على السواء.

لذلك فإن الإمبريالية التي لم تتخل أبداً عن أهدافها، لجأت إلى التوسع في استخدام وسيلة خطيرة هي «تدمير الذاكرة التاريخية للشعوب».

وهنا تكمن أهمية التناول التاريخي الذي يقوم به الأستاذ هيكل، وأعني به الحفاظ على الذاكرة الوطنية والقومية لشعوبنا، عبر ذلك الربط المحكم بين مراحل التاريخ الوطني والقومي في مواجهة الموجات الاستعمارية المتتالية، حيث يطرح بالوثائق تاريخ مرحلة حفلت بالمعارك والمقاومة والانتصارات، مرحلة العزة الوطنية والقومية، ويفصل بين هذه المرحلة وبين الحاضر الاستسلامي حالك السواد.

وفي مواجهة الغثاء الذي يطرحه أشباه السياسيين والمثقفين والصحفيين من خدام الإمبريالية والصهيونية والسلطة التابعة، الذين ينكرون المخاطر الاستعمارية، والإستراتيجية الإمبريالية الصهيونية لإخضاع المنطقة، والمشروع المعلن بوضوح متمثلاً في «الشرق الأوسط الجديد»، فإن الأستاذ هيكل يوضح بجلاء أن الاستراتيجية الاستعمارية الغربية قديمة وليست مستحدثة، وأن أهدافها واحدة لم تتغير وإن تغيرت الأدوات والوسائل.

ولذلك فهو يؤكد على فضح أولئك العملاء الذين يروجون لنظرية ساقطة تبرر المشروع الإمبريالي في منطقتنا بأنه لا مخاطر آتية لنا من الخارج تستهدف وجودنا، وان هذه مجرد أوهام نشيعها كأصحاب لنظرية المؤامرة، إذ يؤكد بالوثائق على عمليات التآمر الإمبريالي الصهيوني الواسعة، وإذ يؤكد في الوقت ذاته على إن التاريخ ليس مؤامرة فإنه يؤكد وبحق أن المؤامرة موجودة وعانينا وما زلنا منها.

وهو يعمل على تحذير الشعوب العربية وتحصينها من المخاطر الهائلة، التي يبرز في مقدمتها خطر عزل مصر عن أشقائها بهدف تحطيمها من الداخل، وإنهاء دورها، ومن ثم تحويل الكيان الصهيوني إلى القوة القائدة للمنطقة، ونهب ثروات بلداننا، وصولا إلى خروجنا من التاريخ ثم إلى مرحلة الفناء. وذلك هو الهدف الإمبريالي والصهيوني الذي نما وتعزز نتيجة لتراجع دور مصر بعد التخلي عن مشروع النهضة.

ولم يكن غريباً في هذا العهد حالك السواد، أن أحدا من الذين هاجموا الأستاذ هيكل قد لفتت نظره الحقائق الخطيرة التي أوردها.

لم يلفت نظرهم مثلا إن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق روجرز قال له (حينما وجد تهافت السادات لإقحام كسينجر في التفاوض مع العدو الصهيوني)، إن ولاء كسينجر.. لشعبه، لأمته: اليهود.

ولم يلفت نظر هؤلاء الحقيقة التي عشناها جميعاً عن الوعود الأمريكية في كل منعطف جاد بإعطاء الفلسطينيين حقوقهم !! مثلما حدث مع السوفييت في أفغانستان، وفي حرب تحرير الكويت، وفي انجولا والقرن الأفريقي والبوسنة، وفي احتلال العراق , حيث يستجيب العرب للنداءات أو الأوامر الأمريكية: ساعدونا فنساعدكم، ثم لا نأخذ شيئا. وهو ما صاغه الأستاذ هيكل بدقة متناهية وبليغة في عبارة «لعبة النصابين مع المغفلين».

ولم يلفت نظر هؤلاء افتضاح أمر المبادرة السعودية التي تحولت إلى مبادرة عربية!! وهي صناعة يهودية، إذ صاغها الصحفي الأمريكي اليهودي توماس فريدمان!! والتي تم نفض التراب عنها بعد أن صرح عمرو موسى علناً بأن عملية السلام ماتت.

لم يسأل أحد من هؤلاء نفسه لماذا خرجت مؤخرا إلى النور؟... إلخ إلخ.

ثانياً: ما يخص الرئيس

لم يجاف الأستاذ هيكل الحقيقة في أي حرف نطق به، لم يضف شيئا للواقع المعاش الذي يشهده ويحس به القاصي والداني، ولذلك جاءت ردود فعل أشباه الساسة وأشباه المثقفين والصحفيين حادة وثأرية، لأن لا أحد منهم يمثل في مجتمعنا قيمة سياسية أو فكرية أو علمية أو إعلامية.

هل جاوز الأستاذ هيكل الحقيقة حينما قال أن المكان الطبيعي لوجود الرئيس يجب أن يكون في عاصمة البلاد مثلما هو متبع في كل بلدان العالم؟

وهل جاوز الحقيقة حينما قال إن الرئيس دخل معترك السياسة بعد سن الخمسين، ألم يقل الرئيس ذلك بنفسه على شاشات التلفزيون المصري؟

وهل جاوز الحقيقة حينما قال أن الرئيس يملك سلطات واسعة حسب الدستور وحسب طبيعة النظام السياسي، وهي سلطات لم يتم تقليصها بشكل ملموس في التعديلات الدستورية الأخيرة، بل تكرست في بعض الجوانب مثل حقه في حل مجلس الشعب بقرار منفرد ودون استفتاء شعبي؟ ألا تقترب هذه السلطات من جوهر الحكم المطلق، إن لم تكن بالفعل حكما مطلقا وفرديا؟

هكذا حملت الهجمة الطائشة على الأستاذ هيكل عنصري التضليل والزيف من ناحية، والثأر الشخصي من ناحية أخرى، وهو ما يؤكد طبيعة هذا العهد حالك السواد.

في النهاية كلمات قليلة عن واحد ممن تصدوا للأستاذ هيكل في ثنايا مسلسل هابط وساقط نشر على صفحات أخبار اليوم، ألا وهو رئيس الوزراء السابق عاطف عبيد الذي يقدم شهادته للتاريخ!!

إنها مهزلة حقيقية أن يقدم عاطف الموظف بدرجة رئيس وزراء شهادته لتزييف التاريخ، في حين أنه قد نفذ تدميرا إبداعيا لاقتصاد الوطن، وللثقافة والتعليم والبحث العلمي، وكنس بدون أي وازع من ضمير وطني كل الحقوق الاجتماعية للفقراء، فازداد التفاوت الطبقي بدرجة مخيفة، وشاع في عهده الفساد والنهب والسرقة والانحطاط كما لم يحدث في كل تاريخ مصر الطويل، كما فقدت مصر في هذا العهد دورها العربي والدولي، واهتز أمنها القومي بسبب السياسات التي روج لها ونفذها عاطف بتفان شديد.

كان الأولى به أن يصمت لأن أحدا في مصر لن يصدقه، لكن يبدو أن «اللي اختشوا ماتوا»!