الخديعة الكبرى
تدور في مصر معركة هامة، لكن دون أصداء واسعة، لأنها تدور في الوسط الأكاديمي، تتعلق بالصراع العربي الامبريالي الصهيوني.
على صفحات جريدة العربي كتب الدكتور رؤوف عباس أستاذ التاريخ الحديث في جامعة القاهرة (وهو من أبرز أساتذة التاريخ الوطنيين والتقدميين) مقالا عن «الدور المريب للجامعة الأمريكية»، فضح فيه «التوجه الجديد لبرنامج الدراسات الشرق أوسطية بالجامعة الذي ركز على إبراز وجهة النظر الإسرائيلية وحدها»، وهو الأمر الذي لحظه الدكتور رؤوف من خلال تتبعه للنشرات التي يصدرها مدير المركز الجديد د. جويل بنين، والتصريح اللافت للنظر لرئيس الجامعة الجديد عن فتح الباب أمام الأكاديميين الإسرائيليين للمشاركة في أنشطة الجامعة، وما نقلته صحيفة «ديلي ستار» عن مداخلة جويل بنين في الندوة التي أقيمت بمناسبة مرور ثلاثين عاما على صدور (أوراق القاهرة للعلوم الاجتماعية) إلى ما يجرى في الخفاء لتسويق المشروع الصهيو–أمريكي الخاص بالشرق الأوسط (بمختلف قياساته) وما ذكره جويل بنين في الندوة سالفة الذكر عن عدم جدوى المقاومة المسلحة في حل القضية الفلسطينية.
تصدى اثنان من المصريين على صفحات الجريدة نفسها للدفاع عن جويل بنين، أحدهما د. خالد فهمي أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث بجامعة نيويورك، والآخر د. سامر سليمان أستاذ مساعد الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
أهم ما تعرض له الأول هو الإشادة بجويل بنين مؤكدا انحيازه لحقوق الفلسطينيين وتنديده بالسياسة الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية، رغم أنه كان في شبابه ذا ميول صهيونية غير أنه بعد أن عاش في إسرائيل تخلى عن صهيونيته محاولاً بلورة رؤية مستقبلية عن كيفية الوصول إلى تسوية سلمية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي واتهم تغطية «ديلي ستار» للندوة المذكورة بعدم الدقة.
وأهم ما تعرض له الثاني هو إنكاره لما قاله بنين من أن الفلسطينيين سوف يلاقون مصير الهنود الحمر ومؤيدا للتحليلات التي توردها المجلة التي يشرف عليها بنين في الجامعة الأمريكية، التي تحمل مواقف منحازة لإسرائيل، بأن ذلك مفهوم في الحقل الأكاديمي «ألا تحجب تحليلات وراءها مواقف نختلف معها»، وداعيا إلى نقاش هادئ وموضوعي حول من الصهيوني ومن غير الصهيوني وبأن المسألة لا تتعلق بجويل بنين وإنما بعلاقتنا مع اليهود، وأننا كنا نفخر بيوسف درويش وصادق سعد وشحاتة هارون وغيرهم وأن «التيار الذي يفرق بين اليهودي والصهيوني قد انحسر، وذلك «مصيبة كبرى» من منطلق أخلاقي وسياسي لأننا لو ناصبنا اليهود العداء فلن نجد في العالم من يقف معنا سوى الفاشيين» واعترض «على المنطق القائل: كم من اليهود غير صهاينة؟ وهو منطق مرفوض لأنه لو وجد يهودي واحد غير صهيوني فنحن نحتاج إليه لكي نثبت أننا غير عنصريين» واستطرد في سرد انجازات بنين.
يطرح ما حدث قضايا كثيرة، لكن العمود الفقري للأفكار المطروحة هو موضوع «الصهيونية» فهذا المصطلح يتم التعامل معه عمداً بطريقة ملتبسة تسهل تزييف وتمرير جوهره الحقيقي حيث يدعي الكثيرون من اليهود أنهم ضد الصهيونية بهدف أن يوجهوا اهتمامنا إلى بعض اليهود فقط لتتوه الحقيقة، ثم يأخذونا إلى السلام (الصهيوني) وصولاً إلى منطق التآخي العربي اليهودي بدعوى مواجهة المتطرفين من الجانبين أي من العرب واليهود!!، وهم بذلك لا يتجاهلون الحقائق التاريخية فحسب بل يتجاهلون تصاعد خطر المشروع الصهيوني الذي تجاوز فلسطين التاريخية وحلم «من النهر إلى البحر» إلى نطاق أوسع بكثير يمتد من حدود الصين والهند شرقا إلى الأطلسي غربا «الشرق الأوسط الجديد».
أتذكر أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان الصيف الماضي أن شاشات التلفزيون حملت إلينا مشهد تظاهرة هزيلة لجماعة «السلام الآن» الإسرائيلية، حيث عبر شبان وكبار من المتظاهرين عن غضبهم من سياسات الحكومة الإسرائيلية لأنها تشكل مخاطر جسيمة على مستقبل إسرائيل، في حين– ويا للمفارقة– أن من بيننا من يروجون لجماعة السلام الآن ولليسار الإسرائيلي بدعوى دعمهما للحق الفلسطيني.
وللأسف فان هذا المنطق يطمس الحقيقة التي تؤكد أن «الصهيونية هي القومية اليهودية»، وهي قومية زائفة لاتنهض على أي أساس علمي، ويجسدها الكيان اليهودي كاستعمار استيطاني عنصري إحلالي توسعي في فلسطين.
هذا هو جوهر «الخديعة الكبرى» التي يجب التصدي لها، ووضع معيار موضوعي للتفرقة بين اليهودي الصهيوني وغير الصهيوني. هذا المعيار هو «أن كل يهودي يؤيد وجود هذا الكيان الغاصب هو صهيوني، والعكس بالعكس» ذلك المعيار يجنبنا ابتلاع الخديعة من ناحية والابتزاز من ناحية أخرى، وذلك يكشف أكذوبة اليهود الثلاثة في مصر (يوسف درويش، شحاتة هارون، صادق سعد)، الذين يضرب بهم المثل بأنهم ليسوا صهاينة بل معادون للصهيونية. فمن واقع معرفتي بالأول والثاني، فهما يؤيدان وجود وبقاء الكيان الصهيوني ويموهون بضرورة السلام والتآخي بين العرب والإسرائيليين على أساس «دولتين لشعبين» أما ثالثهم صادق سعد الذي لم أتعرف عليه بشكل مباشر فإنه يشاطرهما هذا الرأي تماماً.
وأتوقف قليلاً عند بعض ما ورد في الدفاع عن جويل بنين:
كيفية حل الصراع: يؤيد المتصدين للدكتور رؤوف عباس رؤية بنين عن ضرورة وقف المقاومة المسلحة التي لاجدوى منها، والبحث عن وسائل أخرى لإقرار السلام، ناسين أنه بعد مرور ثلاثة عقود على السلام والصلح بين مصر وإسرائيل لم يتحقق السلام أبداً وأنه سقط سقوطاً استراتيجياً، وعلينا أن نعد العدة ونحشد القوى لجولة جديدة في الصراع.
تحول الفلسطينيون إلى هنود حمر: يدعي أحد المدافعين عن جويل بنين أن الأخير يقصد «عدم التواكل بل النظر بموضوعية للأخطار المحدقة بالفلسطينيين والحث على التفكير في وسائل ومشاريع خلاقة يمكنها أن تمنع الوصول إلى هذه النهاية المأساوية» ولست أدري ما هي المشاريع الخلاقة التي يقصدها هؤلاء غير «الشرق الأوسط الجديد» الذي سيوصل كل شعوب الإقليم إلى مصير الهنود الحمر.
اليهود والفاشيون: نحن نسلم بالطبع بأنه يوجد يهود غير صهاينة ولكن هؤلاء لايلفت نظرهم القتل الجماعي للفلسطينيين يوميا بيد اليهود، بل يقفون بشجاعة(!!) في عداء مع شعوب بكاملها وحركات مقاومة كبيرة، لأنها اختارت طريق الممانعة والصمود، ويدعون أن هؤلاء الذين يعانون ما يفوق الطاقة هم مجرد إرهابيين ومتعصبين ومعادين للسلام!!
لقد فرض علينا القتال على جبهات عديدة وواسعة، وعلينا أن نخوض معاركنا بإصرار. ووسط هذه المعارك نبذل كل الجهد في معركة التصدي للاختراقات الصهيونية والتزييف الصهيوني لتحصين أنفسنا وشعوبنا من المخاطر، ولنعلي معا شأن المقاومة وثقافتها.