رسالة القاهرة: إبراهيم البدراوي رسالة القاهرة: إبراهيم البدراوي

مصر بعد «تحرير الاقتصاد» و «اقتصاد السوق».. كارثة أمّة!!

منذ أيام عدة نشرت جريدة الأهرام وهي أهم الجرائد الحكومية خبراً خطيراً بعناوين بارزة. تمت صياغة الخبر كما لو كان يحمل بشرى لملايين الشباب الذين تأكلهم البطالة بأن الخير قادم وأن عجلة التخلص من البطالة قد بدأت في الدوران.

مؤدى الخبر المفجع، هو أن وزيرة القوى العاملة قد تعاقدت مع مسؤول سعودي كبير على «تصدير» 19 ألف فتاة مصرية للعمل بالسعودية كجليسات أطفال ولرعاية المرضى والمسنين!! وهي أعمال تأنف الأسر السعودية الفقيرة من تشغيل بناتهم بها.

هذا هو المعلن عنه، والذي لا يعدو أن يكون صياغة مهذبة عن تصدير 19 ألف فتاة للعمل كخادمات «أو أي أعمال أخرى»!! وطبعا هذه مجرد بداية.

حينما قامت الدنيا ولم تقعد نتيجة الغضب العارم بسبب ذلك، قامت الوزيرة المذكورة بنفي وتكذيب الخبر!! وهذه مأساة من مآسينا اليومية، أن تقع الكارثة ثم يجري تكذيبها دون خجل.

هذه الوزيرة حينما كانت فتاة تحمل الشهادة الاعدادية فقط في ستينيات القرن الفائت، أخذت فرصتها في العمل الشريف والمحترم الذي أوصلها الي ما هي فيه، ومن نافلة القول الحديث عن ثوريتها وتقدميتها آنئذ.

وهي هي نفسها التي تتعاقد الآن لتصدير هذا العدد الهائل من الفتيات للعمل كخادمات للسعوديين. وهي هي نفسها تعلم أن نسبة كبيرة من الفتيات اللائي سيسافرن اضطراراً بسبب البطالة الهائلة التي أنتجتها سياسات السلطة الحاكمة وطبقتها الكمبرادورية، نسبة هائلة من الفتيات المطلوبات للسفر هن من خريجات الجامعات المصرية التي تعلم فيها وتخرج منها الكثيرون جدا من الشخصيات الأبرز في العديد من بلداننا العربية.

**

كثيرا ما يصيبني «القرف» حينما أجلس على مقاهينا الشعبية لمدة ساعة واحدة يمر خلالها تباعا ربما أكثر من عشرة من الشباب والفتيات، يحملون حقائب ويعرضون بضائع للبيع، هؤلاء يسمون في عصر الرقي الرأسمالي الراهن «مندوبي مبيعات» وكلهم تقريبا من خريجي الجامعات. بضائعهم تكون أقلام أو جوارب أو ولاعات سجائر أو لعب أطفال أو عطور الخ... هؤلاء الشباب الذين كان ينبغي- بحكم مستوى تعليمهم- أن يكونوا في أحد القلاع الصناعية (التي تباع ويجري تخريبها) أو في شركة أو بنك أو مدرسة أو مستشفى أو موقع تشييد وبناء الخ... هؤلاء الشباب تحولوا إلى باعة جائلين.

لكن الأنكى هو توسع مهن معينة بشكل سرطاني، مثل مهنة «ماسحي الأحذية». ربما لأن الرأسمالية تريد أن يخطف لمعان أحذيتنا الأبصار!! حتى نظهر بالشكل اللائق أمام السياح الأجانب المحترمين!!

لكن المهم والجديد في الأمر هو انضمام الفتيات إلى هذه المهنة التي كانت مقصورة، منذ ظهورها، على الرجال، وعجبت في أحد ميادين القاهرة أن لغة وأحاديث هاتيك الفتيات/ماسحات الأحذية تؤكد حصولهن على الأقل على الشهادة الإعدادية، وربما الثانوية!!

**

منذ سنوات تم رفع شعار «السياحة هي المستقبل». أنا لست ضد السياحة، لأن مصر تمتلك أفضل إمكانيات ومقومات النهوض السياحي في العالم، ويمكن في ظل أوضاع أفضل أن تدر السياحة عشرات أضعاف ما تدره الآن. ولكن السياحة لا يمكن أن تكون مستقبل شعب ووطن، فالمستقبل هو الصناعة المتطورة والزراعة الحديثة والبحث العلمي المتقدم والتعليم الراقي والتنمية الشاملة المستقلة والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني والدور الاقليمي والدولي اللائق، وقوة ردع قادرة على حماية أمن الوطن.

**

هذا ما فعلته الرأسمالية، أو بالدقة طواغيت المال الدوليين وذيولهم المحليين تحت مسميات « تحرير الاقتصاد» و«اقتصاد السوق» أو أي مسمي آخر. وهو ما حدث على أشلاء التنمية الاقتصادية الاجتماعية التي كانت تقوم بها الدولة. وذلك في إطار التقسيم الدولي الجديد للعمل الذي يحولنا إلى مجرد خدم وباعة جائلين وماسحي أحذية أو عاطلين بالملايين عن العمل وجوعى. إنها الإبادة بادعاء الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي والديمقراطية وحقوق الإنسان على الطريقة الأمريكية، حيث تم إفراغ هذه المصطلحات من مضامينها الحقيقية وأعيد تعبئتها بمضامين مناقضة صهيو-أمريكية أوصلتنا إلى المذلة وإهدار كرامتنا الوطنية مثلما أوصلتنا إلى الحضيض على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والوطني.

**

إن الحالة المزرية التي نعيشها ناجمة عن الركوع الذليل أمام الارادة الأمريكية والصهيونية لمصادرة أية امكانية للنهوض المصري (كقاطرة للنهوض العربي بوجه عام بحكم التاريخ والجغرافيا)، وأن مصر تاريخياً لها قانونها الخاص، وهو الدور الحاسم للدولة في الشأن الاقتصادي الاجتماعي، وهو ما تتجاهله أو تجهله الطبقة الحاكمة التي لايعنيها سوى مصالحها الخاصة في ارتباط مع مصالح رأس المال الامبريالي، غير عابئة بالمصير الرهيب للوطن والشعب.

آخر تعديل على الخميس, 17 تشرين2/نوفمبر 2016 19:38