ابراهيم البدراوي ابراهيم البدراوي

السير نحو المجهول

كلما اقترب شهر رمضان من كل عام، تنهال التصريحات والوعود من كبار المسؤولين عن الاستعدادات لاستقباله وتوفير السلع الغذائية وعدم رفع أسعارها. وكالعادة حدث ذلك منذ أيام بعقد اجتماع على أعلى مستوى أسفر عن النتائج  نفسها التي تعودنا عليها. وكالعادة ارتفعت الأسعار في نفسه اليوم خاصة بالنسبة للسلع الغذائية التي يسهل اكتشاف ما طرأ على أسعارها  كل يوم.

لقد تكرس ما يشبه القانون لدى صدور هذه التصريحات، وكأنها ضوء أخضر أو كلمة سر ترتفع الأسعار مع إطلاقها!!
الآلية الحكومية المعلن عنها والمعتمدة هي إقناع التجار بواسطة إدخال الغرف التجارية على الخط لعدم رفع الأسعار، أي أنه لاعلاقة للأمر بالقانون أو الرقابة أو سلطة الدولة، وذلك بعكس المتبع مع الطبقات الكادحة التي يفرض عليها بالقسر ما تريده السلطة سواء بالعنف أو بقوة التشريع الذي تحتكره الطبقة المهيمنة من رجال الأعمال.
بطبيعة الحال لا يستجيب التجار، وبالدقة كبار المهيمنين على السوق لهذه المناشدات الفارغة، لأنها شكلية وغير جادة، ولأن الحكومة حريصة على احترام قانون وحيد هو قانون السوق، وشعارهم المفضل المسمى «الاقتصاد الحر».
والغريب أن سلطة رجال الأعمال لا تمل من الحديث عن الدعم الموجه للفقراء، وبأنها تدفع المليارات كل عام من موازنة الدولة للدعم المزعوم، وكأنه صدقة يدفعونها من جيوبهم الخاصة لملايين الكادحين.
من الممكن أن نصدق السلطة فاقدة المصداقية لو كان الدعم المزعوم هو لتغطية الفرق بين تكلفة السلعة بعد إضافة الربح طبعاً، وبين سعر بيعها للمستهلك. لكن أسلوب حكومة رجال الأعمال في احتساب قيمة الدعم يقوم على أساس الفرق بين سعر البيع للمستهلك وبين ما يسمى بالسعر العالمي حتى لو كانت السلعة منتجة محلياً، أو لو كان من الممكن إنتاجها محلياً مثل القمح لتتجنب البلاد أخطار وأضرار استيراده من السوق العالمية والأمريكية على وجه الخصوص.
الغاز الطبيعي المصري مثال صارخ على كيفية التعامل مع قضية الدعم، إذ أن سعره العالمي يبلغ 3 دولارات للمتر المكعب بينما يباع للكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين بسعر 70 سنتاً للمتر المكعب أي بأقل من ربع سعره العالمي، وهو المتبع أيضا بالنسبة للبترول الذي يباع لكيان العدو ولا يتحرك سعره بالصعود أبداً!! وتمر هذه المسألة بهدوء ودون ضجة، فيتم دعم اقتصاد العدو وتزويد آلته الحربية بالطاقة المدعومة، بينما نُعيَّر نحن المصريين ليل نهار بالدعم المزعوم، بل لقد تم الإعلان مؤخراً عن خطة (للتنفيذ) لرفع أسعار الطاقة لتتساوى مع السعر العالمي في غضون ثلاث سنوات.
السعر العالمي هو آخر صيحة في قاموس وموضة حكومة رجال الأعمال، في حين لا يطبق هذا السعر العالمي على قوة العمل، بداية من أجور عمال الزراعة حتى أساتذة الجامعات (باستثناء بعض فئات محظوظة مثل العاملين في البورصة حسب اعتراف مديرها منذ حوالي ثلاث سنوات أو فئات ضيقة أخرى وكلهم للأسف لاعلاقة لهم بالإنتاج المادي أو الروحي).
وأعتقد أنه لا أحد  منا سيعترض على وصول كافة الأسعار إلى المستوى العالمي لو ترافق ذلك مع رفع الرواتب والمعاشات والدخول لكافة الكادحين إليه.
إن تقليص الدعم كان أحد المكونات المبكرة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية (بل والسياسية) التي أوصلت البلاد إلى الأزمة الراهنة، وبسببه اشتعلت الانتفاضة الشعبية التي امتدت إلى مصر كلها في يناير 1977. إذ بدأ الموضوع باختيار اقتصاديين يمينيين وليبراليين معادين  لأي توجه اجتماعي لصالح الكادحين ووضعهم كوزراء مختصين بالوزارات المعنية بشؤون الاقتصاد.
واستمر هذا التوجه بالنسبة لهؤلاء الذين أطلق عليهم اسم وزراء المجموعة الاقتصادية، المرتبطين علناً أو خفية بالمؤسسات المالية الدولية، مع الحرص على تنقية هذه المجموعة باستمرار ممن يتوجسون في توجهه الوطني.
وتحت وابل القصف الذي قامت به السلطة ومجموعتها الاقتصادية وإعلامييها بوابل من النظريات الاقتصادية التي عفا عليها الزمن، عن حرية التجارة واقتصاد السوق والإصلاح الاقتصادي، والمصطلحات الغامضة التي تطلقها المؤسسات المالية الدولية، والحيل التي اعتمدتها هذه المؤسسات التي لا تعدو كونها كذباً ونصباً، وتدميراً للبنى الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، وهو ما أوصلنا إلى الأزمة الشاملة التي يعيشها الوطن والشعب.
لقد كان نصيب عوائد التملك من الفائض في الستينات 36% بينما كان نصيب العمل 64%. وفي نهاية الثمانينات كان النصيب النسبي للأجور والمعاشات 5ر48% من الناتج المحلي الإجمالي، انخفض عام 1995 ليصبح 6ر28%، بينما ارتفع نصيب عوائد التملك من 5ر51% أواخر الثمانينات إلى 4ر71% عام 1995.
وبالرغم من المستوى المخيف لانتشار وعمق الفقر في مصر، فان لدينا الآن 91 مليارديراً و100 ألف مليونير، لا يمكن بالعقل أو بالمنطق أن تكون ثرواتهم بهذه الأرقام الفلكية قد تحققت في هذا المدى الزمني القصير للغاية بأي درجة من المشروعية، بالمعني البرجوازي، أي وفق  القوانين الاقتصادية للرأسمالية التي تدرس في جامعاتنا.
إن الجوع الزاحف بوحشية على عشرات الملايين من المصريين هو الوجه الآخر لاستنزاف  هائل لثروات وعرق الشعب الذي تحول إلى عشرات من مليارات الدولارات اغتصبتها جماعات مافيوية  تسمي نفسها رجال أعمال. هذه هي الرأسمالية!!
منذ بضعة أيام قابلني شاب أعرفه يعمل موظفاً، حكى لي بتأثر شديد «اقترب من البكاء» عن شخص يعرفه جيداً كان يعمل بوظيفة مرموقة حتى أحيل إلى المعاش حسب السن القانونية، وكان الرجل يتصف بالنزاهة والشرف. قابله الشاب في أحد شوارع القاهرة يقوم بالتسول. أصيب الشاب بصدمة شديدة، لكن الرجل العجوز بادره بأن معاشه لا يكفيه وزوجته  خصوصاً مع الكبر والمرض، وبأن هذا هو حال العديد من الموظفين المرموقين الشرفاء الذين يعرف الشاب بعضهم، وبأنهم مضطرون للتسول.
في بلد الـ91 ملياردير والـ100 ألف مليونير، يتزايد الحديث عن إمكانيات حدوث انفجار شعبي أراه شبيه من الناحية الكيفية بحريق القاهرة عام 1951، ومن الناحية الكمية بانتفاضة يناير 1977.
في مثل الظروف الخطيرة التي تمر بها بلادنا يكون هناك احتمالان خطران: احتمال الانهيار إذا ما زادت ضغوط الخارج، والانفجار إذا زادت ضغوط الداخل. والاحتمالان كلاهما واردان، وإن كان احتمال الانفجار هو الغالب.
في كل الأحوال فان الطبقة المافيوية لديها طائراتها الخاصة الجاهزة للإقلاع حاملة إياهم في أي لحظة إلى حيث أموالهم المنهوبة في الغرب.