دلالات الاستطلاع بالقوة
اخترقت طائرات العدو الصهيوني أجواء سورية الشقيقة.. لم نلحظ رد فعل رسمي عربي ملموس إزاء هذا الأمر الخطير.
الخبر تناولته وسائل الإعلام الرسمية العربية كما لو كان الحدث قد تم في أحدى الجزر المجهولة في المحيط الهادي، أي أن ما تعودناه إزاء الكوارث بسبب العدوان والمذابح الجماعية لأبناء شعبنا في فلسطين والعراق والصمت الرسمي العربي، قد بقي على حاله، لأن الطبقات الحاكمة قد تم تطويعها تماما للتكيف وبذل الجهد كي تتكيف الشعوب مع هذا الواقع المر. لكن الشعوب لم تتكيف لأنها تدرك (حتى وإن تأخر تعبيرها عن هذا الإدراك)، أن الأمور لن تتغير إلا إذا أخذت أمورها بيدها وألقت بهؤلاء المستسلمين إلى مزبلة التاريخ.
لقد كتبت في عدد سابق مقالا بعنوان (الحرب قادمة)، ورغم أن كثير من المحللين يقولون بعكس ذلك، فإن الواقع الموضوعي يؤكد أن الحرب قادمة، وأن الاستطلاع الجوي الصهيوني الذي تم هو في هذا السياق.
أمور لها مغزى
ثمة وقائع تحيط بهذا الاختراق الجوي تؤكد أن الأزمة الأمريكية تتعمق والتناقضات داخل النخبة الحاكمة هناك (وإن كانت ثانوية) تطفو، والصعوبات تتفاقم، وهو ما شكل مناخا ساعد على حدوث هذا الخرق الجوي وعلى تداعياته القادمة.
أحدث الوقائع تقرير (باترويس – كروكر)، أولهما هو قائد القوات الأمريكية في العراق، والآخر هو السفير الأمريكي في بغداد. وهذا التقرير قُدّم للكونجرس في 11 من الشهر الجاري، وهدفه هو تحديد الموقف من العراق، وقد تسرب منه حتى كتابة هذه السطور أمران: أولهما هو التأكيد على فشل المعالجة التي يقوم بها المالكي رئيس وزراء العراق، والآخر هو احتمال سحب بعض القوات الأمريكية في مارس القادم. وإن كان باتريوس قد ربط هذا الأمر بالوضع على الأرض هناك. سبقه تقرير أصدره مكتب محاسبة الحكومة الأمريكية، وهذا المكتب هو أحد أذرع الكونجرس في محاسبة السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة. ذكر هذا التقرير أن استراتيجية بوش الأمنية لم تكلل بالنجاح، ولم تعطِ بعد سبعة شهور نتائج ايجابية، وأن معدل الهجمات على المدنيين مرتفع، واحتفظ بالنسبة نفسها خلال الشهور الماضية، وأعطى التقرير للحكومة الأمريكية 3 نقاط من 18 نقطة، وهي أنها: أنشأت قوة أمنية عراقية أمريكية مشتركة، أنشأت لجاناً لدعم تأمين بغداد، وأصدرت تشريعات لصالح الأقليات، أي أن الإدارة الأمريكية قد سقطت بجدارة، في حين أن بوش ادعى أن الحكومة العراقية قد حققت 9 نقاط من 18 نقطة، وهذا التعبير كان محل سخرية في الكونجرس، حيث علق رئيس لجنة العلاقات الخارجية بأن وصف بوش بأنه يشبه شخصاً سقط من مبنى ارتفاعه 100 طابق، وعند وصوله إلى الطابق الـ 50 يؤكد أنه قد قطع نصف المسافة بسلام!!
كذلك هناك تقرير آخر سابق للكونجرس هو تقرير جنرال (جونز) قال: إنه ينبغي حل الشرطة العراقية بالكامل لأنها طائفية وفاسدة، وإنه لا يصح أن يطلق على وزارة الداخلية العراقية اسم وزارة.
وهكذا تشير مجمل التقارير المقدمة إلى الكونجرس، وما يحدث في جلسات الاستماع بشكل عام، إلى أن التقديرات العامة السائدة داخل النخبة السياسية وفي أهم المؤسسات أي الكونجرس، تؤكد أن هناك خيبة أمل شديدة نتيجة فشل الاستراتيجية الأمنية الأمريكية في العراق.
ويعزز هذا الإخفاق نية الحكومة البريطانية الحليف الرئيسي للولايات المتحدة الانسحاب من المستنقع العراقي. يضاف إلى ذلك مستجدات الوضع في أفغانستان الذي أصبح أكثر سوءاً، إذ أطل أسامة بن لادن من جديد، وهو ما أنتج حالة من الهياج تجاه بوش الذي فشل في القبض عليه طيلة هذه السنوات، كما أصبح طريق قندهار تحت سيطرة طالبان، بما يعني عملية تقطيع أوصال الوجود العسكري الأطلسي في أفغانستان. كما أنتجت مفاوضات طالبان مع حكومة كوريا الجنوبية بشأن الأسرى الكوريين ثم تمام الإفراج عنهم، سمعة عالية لطالبان التي احتل اسمها الصدارة في الإعلام العالمي. وأخيرا التململ الأوربي، ومن ألمانيا بوجه خاص، حيث أشارت الاستطلاعات إلى مطالبة 65 % من الألمان بسحب القوات الألمانية من أفغانستان، وذلك يشير إلى أن (عقد) حلف الأطلسي في أفغانستان مهدد بالانفراط.
القفز إلى الأمام!!
في مقابل كل ما سبق، ربما يكون النجاح الأمريكي الوحيد (للأسف) قد حدث في فلسطين، حيث تم إحداث شرخ واسع فيها تمثل بتقسيم الباقي من التقسيم إلى ضفة وقطاع بين فتح وحماس، وانصياع محمود عباس للأمريكيين والإسرائيليين ورفضه الدخول في حوار للمصالحة، بما أوصل إلى تسعير الصراعات داخل الساحة الفلسطينية.
وفي ظل هذا الوضع بكامله، أي الإخفاق الأمريكي في العراق وأفغانستان بعد الفشل المدوي في لبنان العام الماضي، وحتى الآن، ثم ويا للأسف الوضع الفلسطيني، تحاول الولايات المتحدة القيام بمناورة المؤتمر الدولي للسلام، وتضع شروطا لاشتراك سورية فيه مؤداها قبولها بالتفاوض حسب نهج الانصياع والاستسلام، لكن هذا المؤتمر (واقعياً) ليس مؤتمر سلام، ولن يتحقق تقدم علي هذه الجبهة، حيث صرح مدير جهاز الأمن الداخلي السابق في الكيان الصهيوني أن الظروف لا تسمح بمناقشة الحل النهائي، لكن الأمريكيين في ظل إخفاقاتهم يحاولون تلمس إنجاح مناورة، هي مجرد تعمية استراتيجية كي يقوموا بقفزة إلى الأمام لتجاوز الفشل والهزائم، ولتحقيق إزالة معوقات المشروع الإمبراطوري الأمريكي في الإقليم، أي الشرق الأوسط الجديد، تلك المعوقات المتمثلة في حائط الصد (سورية وإيران وحزب الله) كطلائع للمقاومة العربية والإسلامية.
إن إجمالي ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية يبلغ هذا العام 606 مليار دولار وهو أمر يحمل دلالات خطيرة.
لكل ذلك خرج الكيان الصهيوني في ظل هذه الظروف التي يراها مؤاتية ليزيد التوتر في المنطقة، مستغلا مرارة الهزائم الأمريكية ونزق بوش وغياب الفعل الرسمي العربي المساند لسورية، والانقسام الفلسطيني، فاستدعي احتياطي القوات الجوية والدفاع الجوي، بل واختلاق مبررات وحجج واهية من قبيل تهريب السلاح للفلسطينيين لنشر القوات الإسرائيلية على الحدود المصرية وحتى الأردنية.
إن مسرح العمليات يتم إعداده للحرب الصهيو-أمريكية ضد سورية وإيران وحزب الله، وهذا هو السياق الذي جرى فيه الخرق الجوي.
اشتعال المنطقة قادم. وعلينا الاستعداد لذلك.