إعلان صنعاء بين التفسير والتأويل!
شهدت صالونات القصر الجمهوري، وغرف وزارة الخارجية اليمنية على مدى أربعة أيام حركة غير عادية، تمثلت في قيام الوسيط اليمني- وزير الخارجية- بلقاءات مكوكية تنقل آراء ومواقف كل طرف للآخر، من وفد حماس إلى الوفد المسمى «وفد منظمة التحرير الفلسطينية» وبالعكس! تجاه تفسير بنود المبادرة اليمنية الخاصة بإنهاء حالة الانقسام الفلسطيني. وقبل الدخول في قراءة ماتمخضت عنه تلك الساعات الطويلة والثقيلة من الحوارات التي جرت بـ«الإنابة» وعبر الوسطاء، وتحت غطاء من «حرب» التصريحات الصحفية المضادة للفريقين، لابد من إضاءة بعض الجوانب التي شابها التعتيم المقصود، لإخفاء العديد من الحقائق.
الحكومة اليمنية وجهت الدعوة لكل من قيادتي حركتي فتح وحماس للقدوم إلى صنعاء للتباحث حول بنود المبادرة مع كل طرف على حدة. لكن اللافت لنظر المراقبين كانت تشكيلة وفد قيادة رام الله! فقد حاولت تلك القيادة إحراج وفد حماس بكونه سيتحاور مع وفدٍ لمنظمة التحرير، وبالتحديد سيكون بمواجهة «منظمة التحرير»، لأن الوفد الثلاثي كان يتشكل من مندوب فتح «عزام الأحمد»، و«صالح رأفت» مسؤول الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني «فدا»، و«قيس عبد الكريم السامرائي» عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية. من خلال هذه التركيبة التفاوضية، أرادت «الرئاسة» في رام الله المحتلة توسيع دائرة التفاوض/الاشتباك مع حماس، بالإيحاء بأن معركة الأخيرة هي مع العديد من القوى الفلسطينية المشاركة في «اللجنة التنفيذية»، الفاقدة لوظيفتها القيادية، والتي يتم إحياء دورها الشكلي- راهناً- كلما أرادت الرئاسة في رام الله تجميل وجهها الفردي/الاستئثاري بمساحيق جماعية! وهو مادفع وفد حماس لرفض التحاور مع عضوي الوفد، على اعتبار أن (وضعية المنظمة الراهنة ودورها، وتكوين هيئاتها، هو أحد قضايا الخلاف) مما حصر الحوارات مع مندوب حركة فتح فقط. خاصة وأن الفصائل المؤتلفة في اطار المنظمة لم تكن في أي وقت طرفاً في الصراع مع حركة حماس ولم تكن لها أية مشاركة في مواجهات الحسم العسكري الذي شهده قطاع غزة في منتصف حزيران من العام المنصرم.
خلال ساعات الحوار «غير المباشر» وصلت المحاولات اليمنية إلى حائط مسدود، وكاد الوفدان أن يعودا من حيث جاءا، بما يحمل ذلك من دلالات تشير في مقدمتها إلى عجز الطرف المضيف/الراعي على تأكيد دوره المستند إلى مظلة اقليمية ودولية، وهذا ماتطلب التدخل الحاسم للرئيس في دفع الطرفين للتوقيع على البيان الصادر عن اللقاء. اثنتان وثلاثون كلمة تضمنها البيان كانت كافية لفتح النار عبر تراشقات كلامية على الفضائيات وأجهزة الإعلام- خرجت في جزء منها عن لغة الأدب السياسي- بين عزام الأحمد والرئاسة برام الله، خاصة بعد صدور بيان الرئاسة، الذي رأت فيه أن (استئناف الحوار في المستقبل يجب أن يتم لتنفيذ المبادرة اليمنية بجميع بنودها وليس للتعامل مع تلك المبادرة كإطار للحوار، لأن ذلك لن يؤدي الى نتيجة. بنود المبادرة اليمنية واضحة، ونحن نريدها للتنفيذ لا للتحاور). وقد صَّعد مستشار الرئيس «نمر حماد» من لغة الإدانة للتوقيع على هكذا إعلان (إن الرئاسة ترفض التحاور مع حماس في شأن تنفيذ المبادرة اليمنية...لأن موافقة الرئاسة جاءت لتنفيذ كل بنودها، وفي مقدمتها تراجع حماس عن الانقلاب في قطاع غزة) مؤكداً (أن التوقيع تم دون علم الرئيس) وهو مانفاه «عزام الأحمد» بعبارات قاسية، تضمنت الانتقاص من دور المستشار وآخرين (لجهلهم بالموضوع وبالاتصالات التي أجريتها مع الرئيس). ويأتي في مقدمة الآخرين «ياسر عبد ربه» المسمى «أمين سر اللجنة التنفيذية»، والذي أكد في حديثه لإذاعة «صوت فلسطين» بأن (إعلان صنعاء اتفاق غش ولن تشارك فيه القيادة الفلسطينية ومنظمة التحرير)، واصفاً الشروع في حوار حول بنود المبادرة اليمنية بـ(العبث السياسي).
ماكاد حبر التوقيع على الاعلان يجف، حتى بدأت أصوات الذين ساهموا بإخراج الاتفاق للنور، تعلن من على شاشة إحدى الفضائيات (مساء الاثنين 24/3) تفسيرات جديدة لمضمون الاعلان. «قيس عبد الكريم» أشار إلى أن الاتفاق (جاء بصيغة ملتبسة ويحتمل اجتهادين) أما عزام الأحمد فيؤكد- في موقف جديد يتجاوز الصيغة الحوارية للإتفاق (تنفيذ المبادرة يتطلب: انهاء الانقلاب، وانهاء الحكومة- يقصد حكومة إسماعيل هنية- وتسليم كل شيء للرئيس محمود عباس...وضرورة الالتزام بالقانون الأساسي للسلطة، وحكومة سلام فياض هي الحكومة الشرعية)!
مابين التفسير والتأويل، لايحتاج المتابع لكثير من العناء لاكتشاف حقيقة موقف سلطة رام الله المحتلة من المبادرة اليمنية وإعلان صنعاء. إنها محاولة مكشوفة للعب دور الحريص على لملمة الوضع الفلسطيني، وانهاء حالة الانقسام، الذي لم يتحدد فقط في الحسم العسكري في غزة، بمقدار مانقلته مراسيم وقرارات وصفقات عباس/فياض/عبد ربه إلى كل الحالة الفلسطينية، السياسية والمجتمعية داخل فلسطين المحتلة، وبمناطق اللجوء. هذا الحرص الذي يستجيب شكلاً للمبادرة اليمنية، التي تأتي على أعتاب «قمة دمشق»، ويرفض واقعياً كل الدعوات لإعادة اللحمة للوضع الداخلي والمجتمعي الفلسطيني، نتيجة الاستحقاقات الإقليمية والدولية التي ارتهن اليها.
جاءت نتائج حوارات صنعاء لتنقل الخلاف الداخلي في الحركة السياسية الفلسطينية إلى داخل بنية الرئاسة والحزب «الحاكم» في الضفة المحتلة. وبهذا تكون قيادة حماس قد نقلت الأزمة أو رَحَلَتها- بوعي مقصود أو بمصادفة غير متوقعة!- لداخل المؤسسة السياسية والتنظيمية في رام الله، وهذا ماتشير اليه ردود الفعل التي أحدثتها تلك «الصيغة الملتبسة» عند البعض، والعبارات الواضحة غير المبهمة عند الطرف الآخر، كما أشار «موسى أبو مرزوق» رئيس وفد حماس في تصريحات له (إن إعلان صنعاء يقوم على استئناف الحوار في إطار المبادرة اليمنية كإطار لاستئناف الحوار بين الحركتين، بمعنى أن كل نقاط المبادرة هي على جدول أعمال الحوار)، وهو ماأكده «محمود الزهار» القيادي في حركة حماس أثناء ندوة حوارية نظمتها الحركة مؤخراً في غزة (إن ما تم توقيعه فى العاصمة اليمنية صنعاء بشأن مبادرة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح ليس بروتوكولاً، وإنما عبارة عن عناوين وليس أساساً وإنما إطار، وهذا يعني أنه يمكن أن يوضع داخل هذا الإطار الكثير من العناوين).
إن ماكشف عنه المأزق الراهن في حوارات صنعاء، يؤكد أن الأزمة التي لم يتوقف عندها الطرفان، كانت في جوهرها افتقاد هذه المبادرة كما سابقاتها، للبرنامج والأساس السياسي للحوار، لأن الاتفاق على بنود البرنامج/المشروع الوطني التحرري وآليات تنفيذه ستتيح لكل الأطراف البناء على موقف سياسي/كفاحي/ يمهد الطريق لقيام ائتلاف وطني واسع ينهض بالمهام الوطنية، ويعالج كل القضايا الراهنة بدءاً بوضع المنظمة وهيئاتها، وانتهاءً بكل المسائل «الإجرائية/الإدارية، والقانونية، والتنفيذية».إن الإعلان لم يولد ميتاً فقط- كما كتب العديدون- بل إنه جاء على شكل اتفاق، ولكن ليلد أكثر من اختلاف!
على الرغم من إصرار البعض على أهمية المظلة العربية للحوار الفلسطيني/الفلسطيني، فإن مايجب التأكيد عليه، والبدء فيه، هو الحوار الداخلي الفلسطيني الذي تشارك فيه كل قوى العمل السياسي «فصائل وحركات مقاومة» والمنظمات الأهلية، والكفاءات الناشطة في العمل الوطني العام، الملتزمة بقضية النضال التحرري لشعبنا في مواجهة العدو المحتل، من أجل معالجة الحالة الراهنة ووضع أفضل السبل للخروج منها.