دعهم يتحاربوا، دعهم يتقاتلوا!
لم تهدأ مجنزرات دبابات الجيش التركي على الحدود العراقية، ولم يكف السياسيون في أنقرة عن تصريحاتهم الحربية، بينما أنهت «رايس» رحلتها مطمئنة الأتراك إلى استمرار تحالف الولايات المتحدة معهم، واستقر رأي المشاركين في مؤتمر جوار العراق على ألا يتحول العراق إلى بلد يصدِّر الإرهاب، وهكذا غابت الدوافع الأساسية التي حركت جنرالات الجيش التركي ووجدت غلافها بمشكلة وحيدة، هي أنشطة حزب العمال الكردستاني التي اُّتِهِمَت الولايات المتحدة بتزويده بأنواع متعددة من الأسلحة.
وقبل كل شيء فإن ما ينبغي التذكير به، هو أن العمليات العسكرية لحزب العمال الكردستاني على الحدود العراقية التركية ليست بالأمر الجديد، لكن المسؤولين والعسكريين الأتراك وجدوا أن الوضع الذي أصبحت فيه تركيا يتطلب سياسة تعيدها إلى الواجهة الإقليمية على أنها قوة أساسية في المنطقة ولا يجوز التغافل عن دورها في البحث عن واقع وآفاق العراق، وليس بمستغرب أيضاً أن شهية الجنرالات للأسلحة، دفعت إلى حالة تشير أن تركيا تواجه مخاطر ولا يمكن لها أن تكون قوة عسكرية هامشية، كما ليس بمستغرب أن الوضع في المنطقة يحرك شهية الجنرالات للذهاب نحو مشروع نووي تركي، تحت حجج متداعية لا يغيب عنها التهويل بالمشروع النووي الإيراني، ولم يكن ذلك غائباً عن أية محادثات بين المسؤولين الأتراك ومسؤولي إدارة «بوش»، وإذا تحرينا الموقف التركي من «أنابولس»، فإننا نستطيع القول إن الجنرالات حققوا نقلة هامة في دفع الحكومة التركية نحو التلاحم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان أحد محاور نشاط الجنرالات هو إقناع كل سياسي تركي يصل إلى الحكم، بأن دور تركيا في المنطقة مرتبط بمدى صحة علاقاتها بالولايات المتحدة يقيناً.
إنه من السذاجة السياسية الذهاب بعيداً مع حجة اعتداءات حزب العمال الكردستاني، ولا يغيب عن الذهن أن جنرالات تركيا يريدون أن يعاد تكريس ما كان متعارفاً عليه أيام صدام حسين، وهو حرية تحرك القوات التركية في شمال العراق، ناهيك عن أن المسؤولين الأتراك لهم آراؤهم التي لا تستسيغ صلاحيات حكومة كردستان العراق، حيث تخشى الأوساط التركية أن يؤثر ذلك في مطالب الأكراد لديهم.
ونضيف، إن مطالب الأتراك كانت ستؤدي إلى حرب أهلية في كردستان العراق، وإن ذلك لم يكن إلا جانباً مما تريده إدارة «بوش» حيث تتسع رقعة الفوضى، وتضيف إلى الطائفية أشكال أخرى من الشوفينية والقبلية والعائلية، كمسببات للصراع يمكن مدها إلى دول أخرى.
لقد كانت الحصيلة فيما جرى في مصلحة الولايات المتحدة، فقد أمنّت اندفاعات جديدة باتجاهها من سائر القوى الأساسية القيادية المتنازعة، ويعود ذلك إلى الطابع الثانوي للتناقضات بين تلك القوى وإدارة «بوش»، كما يعود إلى ما تمثله تلك القيادات من مصالح طبقية، ناهيك عن محدودية وعيها لمسألة النضال الوطني التحرري وأبعاده وجوهره.
ينبغي القول: إن الحكومة التركية اختارت وقتاً مناسباً لتحقيق أهدافها المباشرة وغير المباشرة، كما أوحت أن المسألة ليست داخلية، ولم تعد القضية الكردية موجودة فيها، وإن الحكومة التركية عالجت الأمر، وقد ساعدها في ذلك عدد من رجال الدين الذين وضعتهم أئمة وخطباء في المساجد، كما أن تأثير الثقافة الدينية التي كثف حزب العدالة والتنمية من نشرها، أثرت في أوساط كردية، وكانت الانتخابات التركية مجالاً لاستمالة أوساط برجوازية كردية، لكن كل ذلك سيتحول إلى عوامل ذات تأثير محدود، خاصة وأن المسائل الأساسية لحقوق الأكراد في تركيا مازالت بعيدة عن التحقيق، وقد أثبتت أحداث التاريخ ووقائعه أن الحقن الآنية لا تصلح لمعالجة فعلية للقضية القومية في أي بلد، فكيف والحال في بلد يستعيد جنرالاته مواقع التأثير والتوجيه للقرار السياسي.
ويظل أن نقول: إن التهديدات التركية وآثارها وتداعياتها لو أنها جرت على أرض الواقع، لشكلت كارثة إنسانية واجتماعية واقتصادية تطال قبل كل شيء جماهير الشعب في كردستان العراق خاصة، وفي عموم العراق عامة، في حين أن الحياة أكدت أن مثل تلك الأعمال العسكرية والتي جرت سابقاً، لم تؤثر على حزب العمال الكردستاني الذي كانت الإدارات الأمريكية تقدم له كل الأسلحة لتمكنه من الاستمرار.
فتلكم أحد اتجاهات السياسة الأمريكية، والتي نلخصها بأن الشعار الأمريكي الآن هو: «دعهم يتحاربوا... دعهم يتقاتلوا»