الانعطافة..
نتيجة لاستمرار الطبقة الحاكمة في اغتصاب الثروة والسلطة، فقد بلغ التفاوت الطبقي حدوداً لا سابق لها، وشاع الفقر الذي يعيش تحت خطه أكثر من نصف الشعب، كما شاعت البطالة والمرض والتسول والتشرد والعنف بشكل لم تعهده مصر، ونتيجة التبعية للإمبريالية التي كرستها هذه الطبقة وسلطتها السياسية فقد تراجع دور مصر الإقليمي والدولي إلى حد التلاشي، ويتهدد الأمن القومي لبلادنا (بمعناه الضيق والواسع) نتيجة لتكبيل الوطن باتفاقيات كامب ديفيد المذلة مع العدو الصهيوني وعلاقات التبعية للعدو الأمريكي.. ولحماية النهب والفساد واستمرار الهيمنة على الثروة والسلطة وكذا لحماية التبعية وعملية انقضاض رأس المال الأجنبي والصهيوني على بلادنا، وكي يستمر امتصاص دمائنا لصالح رأس المال الإمبريالي وأتباعه المحليين، فقد أصبح الاستبداد بكل صوره هو الآلية والوسيلة الوحيدة بيد هذه السلطة.
لقد أصبح الواقع المزري في بلادنا معروفاً وليس بحاجة إلى تشخيص مفصّل، لأن عشرات الملايين تعيش وتكابد محنه وأهواله كل ساعة.
لم تتوقف التحركات والاحتجاجات المقاومة لسياسات السلطة والتي شملت العمال والفلاحين والقضاة والصحفيين وأساتذة الجامعات والطلاب ..إلخ. لم تتوقف النضالات المطلبية ذات الطابع الاقتصادي أو الديمقراطي أو الوطني أو التضامن القومي مع الشعوب في فلسطين ولبنان والعراق وسورية.
• التراكم الكمي
كانت التحركات العارمة رغم اتساعها وتنوعها تفتقد لحد كبير عنصر التواصل فيما بينها، كما أنها كانت ردود أفعال في مواجهة توحش واستبداد الطبقة الرأسمالية التابعة وسلطتها الحاكمة.. وبطبيعة الحال فإن افتقاد هذا التواصل للاحتجاجات - رغم تنوعه (الطبقي والوطني والقومي والديمقراطي) ورغم امتدادها الجغرافي في المدن والريف في كل المحافظات تقريباً- كان بسبب غياب النخبة السياسية المعارضة المتمثلة في الأحزاب المصرح بها وانشغالها باللهاث وراء السلطة للحصول على نصيب ولو ضئيل من الكعكة، والمقايضات التي قامت بها (بتنازلات مزرية) لتحقيق ذلك من ناحية، ثم صراعاتها الداخلية التي اكتسبت (بفعل فاعل) طابعاً تنظيمياً وشخصياً وليس سياسياً. ربما لإشغال الكوادر والأعضاء عما تقوم به القيادات من ناحية أخرى، وهو ما أدى إلى اضمحلال هذه الأحزاب وغياب أي تأثير ملموس لها في الشارع، وعجزها عن الالتحام مع الحركة الجماهيرية الصاعدة.
رغم بعثرة هذه التحركات وعدم تواصلها، غير أنها أنتجت تراكماً كمياً كبيراً.
كان عام 2007 عاماً مميزاً بالنسبة لتنامي الحركة الاحتجاجية، وكنموذج لهذا التنامي نورد على سبيل الحصر الاحتجاجات العمالية خلال العام نفسه، وهي: قيام الطبقة العاملة من يناير وحتى ديسمبر بـ179 اعتصاماً و74 إضراباً، و49 تظاهرة، و19 وقفة احتجاجية و2 عملية تجمهر في النصف الأخير من العام نفسه. ونذّكِر بأن تلك التحركات تمت في ظل قانون الطوارئ الملعون.
• بدء التحول الكيفي
إذا كانت التحركات قد أنتجت تراكماً كمياً، فإن التحولات الكيفية قد بدأت في التبلور وهو أمر يكتسب أهمية فائقة.
ولذلك ينبغي تناول التطورات التي طرأت على الحركة الإضرابية لعمال شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى (أكبر مصانع الغزل والنسيج في مصر ومن أكبرها في العالم)، حيث تم خوض إضراب ديسمبر 2006 الذي تضمن مطلباً واحداً وهو تنفيذ قرار رئيس الوزراء الخاص برفع نسبة نصيب العاملين في الأرباح السنوية من 100 جنية لتكون بمقدار مرتب شهرين، وقد نجح الإضراب في تحقيق هذا المطلب.
وحدد إضراب سبتمبر2007 (نفس عمال الشركة) ثلاثة مطالب، أولها زيادة نصيب العمال في الأرباح من راتب شهرين في العام إلى راتب 135 يوماً في العام، وتم التنفيذ. المطلب الثاني هو ربط الحافز الشهري بالعلاوة الدورية والعلاوة الاجتماعية وقد تم تنفيذه قبل موعد العلاوة الدورية. والثالث هو إنشاء جهاز نقل للعاملين (حافلات)، وجار تنفيذه.
واستفاد عمال مصر من هذه المكتسبات التي تم تعميمها على نطاق واسع تلبية لإضرابات مشابهة والمطالبة بالمعاملة بالمثل.
وأعلن عمال الشركة نفسها عن إضراب يجري التحضير له بكل جدية وتحدد بدؤه في النصف الأول من إبريل المقبل للمطالبة بعدد من المطالب، من بينها ثلاثة لصالح كل عمال مصر، هي ربط الأجور بالأسعار، وربط بدل طبيعة العمل بنسبة مئوية من الأجر الأساسي، وزيادة نسبة بدل الوجبة الغذائية المقرر من 43 جنيهاً إلى 90 جنيه شهرياً. أما المطالب الأخرى فهي تخص عمال الشركة، وتتعلق بمساواة العاملات بالعاملين في قضية الإسكان وتوفير منافذ لبيع الخبز داخل المصنع تجنباً لمشقة الحصول عليه في خارجه.
ولعل في ذلك ما يؤكد أن تحولاً كيفياً قد بدأ في النضالات العمالية، يؤكده تصاعد مطالبهم وشمولها وربطها بمصالح مجمل الطبقة، بالرغم من أنهم يرفضون حتى الآن ربط حركتهم بأي حزب سياسي، وذلك على عكس إدعاءات البعض (التي تم نشرها في الصحافة) من أنهم وراء الإضرابات عموماً وإضراب المحلة خصوصاً.
• منعطف كيفي
كان الهم الأكبر يتمثل في الأضرار التي يمكن أن تنجم عن بعثرة التحركات الهائلة في ظل الظروف المزرية لجانب كبير من النخبة السياسية (أي الأحزاب المرخص بوجودها). ذلك أن استمرار هذا الوضع يعني أن يظل النضال حول قضايا جزئية لا يجري الربط بينها، كما تظل التحركات والحركات في جزر متباعدة ومنعزلة عن بعضها، وهو ما يفضي إلى إهدار جهود ونضالات هائلة وجادة ومخلصة، وإلى إنفراد السلطة بكل جماعة لقمعها كما يسهل أيضاً على السلطة إمكانية المناورة، أو الوصول في النهاية إلى هبة عفوية واسعة دون قيادة لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
الأمر الإيجابي الحادث الآن، وإزاء الظروف التي يمر بها الوطن فإن إمكانية تلاقي جانب كبير من القسم السليم والمعافى من النخبة السياسية قد بدأ العمل الجاد في لم شمل كافة الحركات والقوى الاجتماعية التي انخرطت في الأعمال الاحتجاجية السياسية والطبقية الوطنية والديمقراطية، بما في ذلك الشخصيات ذات الوزن والتأثير، بهدف صياغة ائتلاف وطني يناضل وفق برنامج سياسي شامل.
إن ما بدر فعلاً من المناضلين المدركين لما يحيق بالوطن من أخطار هو أمر يشكل منعطفاً كيفياً شديد الأهمية، ويؤثر عميقاً وربما على المدى القصير في مستقبل الوطن والشعب.
وسوف ينتصر الشعب والوطن.