اغتيال مأثرة أكتوبر..!
خمسة وثلاثون عاماً مضت على حرب 6 أكتوبر المجيدة، جرى خلالها، ولا يزال اغتيال مأثرتها الخالدة، وتتم محاولات اختزالها في «قرار الحرب» ثم في «الضربة الجوية الأولى» لإضفاء قداسة على من تنسب لهما هاتين الواقعتين.
ربما شاهدنا بعض البرامج التلفزيونية أو الأفلام السينمائية. كما قرأنا مقالات وسمعنا ذكريات تناولت مآثر ضباطنا وجنودنا. لكن كل ذلك لاينفي ولا يحجب عملية الاغتيال الإجرامية التي لا تزال تجري علناً وعلى رؤوس الأشهاد.
السياق المتصل
لايمكن عزل مأثرة حرب أكتوبر عما قبلها، وبشكل أدق عن الجغرافيا والتاريخ. أي عن موقع مصر الفريد استراتيجياً وتبعات ذلك المتمثلة في الصراع الممتد تاريخياً الذي قدر لمصر أن تخوضه.
وبسبب ذلك فقد ولدت وتشكلت تدريجياً- منذ تاريخ مبكر وموغل في القدم- صياغة العسكرية المصرية وعقيدتها القتالية الوطنية، ودورها الحاسم والحتمي في تطور البلاد.
كان الفرعون «أحمس» هو «الملك القائد» الذي قاد تحرير مصر من البرابرة الهكسوس. وبدأت منذ ذلك الحين- موضوعيا «أي بصرف النظر عن الإرادة والوعي»- عملية تبلور وتشكل نظرية الأمن القومي المصري.
بيد أن الأمر تطور فيما بعد، إذ حينما عمت الفوضى البلاد أثناء وبعد حكم اخناتون، وتبدت المخاطر الخارجية، وظهرت وحلت مخاطر تقويض «الدولة المصرية» بفعل الفوضى الداخلية والخطر الخارجي، نهض الضابط القائد «حور محب» بمسؤولياته لإنقاذ الوطن، وأصبح هو «القائد الملك». أي تبدل الأمر في ظل المخاطر والعجز من الملك القائد إلى القائد الملك.
وهنا تبلور دور الجيش بشكل كامل في انعطافة حادة تجاوز بها دور «الدركي» حارس الحدود إلى دور المنقذ لكيان الدولة والوطن ومستقبل الشعب.
الخروج من المعادلة هو الدمار
حينما ضعفت الدولة المصرية، تعرضت للاحتلال بداية من الغزو الإغريقي، تم حرمان المصريين من حمل السلاح لأكثر من ألفي عام، سوى في فترات استثنائية. إذ أن امتلاك مصر لجيش من المصريين هو أمر شديد الخطورة على المستوى الاستراتيجي «بالمصطلح الحديث» من وجهة نظر المحتلين وكل أعداء مصر. هكذا خرج العمود الفقري للدولة المصرية من المعادلة بكل ما أنتجه ذلك من نتائج كارثية لقرون طويلة، طويلة. إذ أن القوة الشاملة للدولة تتمثل في الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية والعلم والثقافة والوزن الإقليمي والدولي..الخ. وفي القلب من كل ذلك «منظومة القوة» التي تشكل العمود الفقري للدولة، والتي تحافظ على وجودها.
دروس العصر الحديث
إذا ما عبرنا إلى العصر الحديث، فسوف نلمس إدراك والي مصر محمد علي باشا لضرورة التخلص من المماليك، وبناء جيش من المصريين، لأنه هو الضمان لتحقيق مشروعه الطموح للنهضة وهو المشروع الذي نهض- كما استخلص الخبير الاستراتيجي الكبير د. أنور عبد الملك- على أكتاف تحالف «ساري عسكر» إبراهيم باشا، مع المثقفين المصريين وهم القوة الاجتماعية الفعالة آنذاك وعلى رأسهم رفاعة رافع الطهطاوي. ولذلك توحدت أوربا لأول مرة في تاريخها وتحالفت مع السلطان التركي لوأد مشروع مصري أدركوا خطره، حيث امتلكت مصر جيشا قوامه 300 ألف ضابط وجندي، كما امتلكت صناعة ناهضة وزراعة ونظام ري متطور ومثقفين ومتعلمين لحقوا بالعصر.. الخ.
رغم محنة إجهاض مشروع محمد علي، وبعد حوالي أربعة عقود، استطاع الجيش المصري رغم ظروفه العصيبة أن يفرز قادة عظام أدركوا وصول البلاد إلى هوة سحيقة. وبرز القادة العظام «محمد عبيد وأحمد عرابي ورفاقهم» حيث تحالفوا مرة أخرى مع القوة الاجتماعية الفعالة في ذلك العصر وهم المثقفين بقيادة القائد عبد الله النديم، للنضال سوياً من أجل إنقاذ الوطن.
رغم هزيمة الثورة العرابية، والظروف التي أحاطت بها، وبعد سبعة عقود كاملة، جاءت ثورة يوليو من الجيش رغم ظروفه الصعبة.
هكذا يتضح السياق التاريخي (الصراع) الذي يؤكد الخشية الدائمة من وجود جيش مصري قوي من ناحية، وأن الجيش المصري لم يكن مجرد حارس للحدود، وإنما منقذ للوطن بالمعنى الكامل من ناحية أخرى، ومن ناحية ثالثة أنه شريك أساسي ولا غنى عنه لأي مشروع للنهضة.
السياق الصحيح لمأثرة أكتوبر
من هذا المنظور ينبغي أن تتحدد الرؤية لمأثرة حرب أكتوبر، التي خاضها أحفاد أحمس وحور محب ورمسيس الثاني ومحمد عبيد وعبد الله النديم وأحمد عرابي وجمال عبد الناصر.. الخ، أبناء وأحفاد ثوار القاهرة ضد الفرنسيين وبناة النهضة وجماهير الفلاحين مع عرابي، وعمال وفلاحي ومثقفي وطلاب مصر في ثورة 1919وما بعدها، وكذا مناضلوها في قرى ومدن مصر.. الخ. إذ ثبت أن منظومة القوة المصرية كانت عصية على الهزيمة والتصفية، وأنها امتلكت دوماً القدرة على النهوض والقيام بدورها التاريخي.
عقب هزيمة 1967 مباشرة (التي صاحبتها ملابسات وتعقيدات معروفة وغير معروفة) بدأت على الفور مآثر الجيش المصري. أنجزت بطولات أسطورية هائلة، من نماذجها إغراق المدمرة الإسرائيلية «إيلات» ومعركة رأس العش.. الخ. وتم خوض حرب استنزاف بطولية في خضم عملية بناء القدرة العسكرية من جديد التي أعطاها الرئيس جمال عبد الناصر كل جهده، ولم تتوقف التنمية والإجراءات الاجتماعية التقدمية. أي تم الحفاظ على مشروع النهضة الذي استهدفه عدوان 1967.
ثم كانت مأثرة 6 أكتوبر المجيدة التي كانت نتيجة لجهد خارق من التخطيط والتدريب والتسليح وتحديد التوقيت الملائم ولحظة الهجوم، وكيفية تأمين العبور وتحطيم خط بارليف الذي يعد من الناحية العسكرية مأثرة أكبر من أي تقدير بشهادة الأعداء والأصدقاء.
يكفي فقط للتدليل، أنه في مشهد العبور العظيم لأكبر مانع مائي في التاريخ، أن تقديرات الخبراء العسكريين الغربيين كانت تحدد نسبة الخسائر بـ30% من إجمالي القوات العابرة كحد أدنى مع وصولها إلى 70% كحد محتمل. بينما كان تقدير الخبراء السوفييت الذي أبلغوه لمصر أن خسائر العبور لن تقل عن 100 ألف رجل. لكن الأرقام المسجلة لإجمالي عدد الشهداء خلال ملحمة العبور كانت على وجه التحديد 180 شهيداً على رأسهم جنرال واحد هو قائد سلاح المهندسين الشهيد أحمد حمدي.
السياسة خذلت الحرب
لقد خذلت السياسة بطولات ومآثر ضباط مصر وجنودها. كان قرار الحرب والاستعداد الحازم لها قد اتخذ فعلاً في حياة الرئيس جمال عبد الناصر. وفي مواجهة التلكؤ والتباطؤ الذي أبداه السادات، كان ضغط الجيش الذي لم يقبل بديلاً عن مواجهة العدو حاضراً بقوة، وكان النضال الشعبي الذي خاضه العمال والطلاب والقوى الوطنية والتقدمية حاضراً كذلك من أجل التحرير. لكن وبرغم المأثرة تم نسيان التضحيات الأسطورية والدماء الغالية لضباطنا وجنودنا وحتى أطفالنا وعمالنا الذين أغارت طائرات العدو على مدارسهم ومصانعهم، وكل التضحيات التي بذلها الكادحون.
بدأ العمل مع الأمريكيين، وتغير سياق الصراع بالكامل وصولا إلى السلام المهين. وبداية من عام 1974 طبقت سياسة الباب المفتوح في الاقتصاد. أي بدأ تقويض المشروع الذي كان الهدف من عدوان 1967. وفي عهد مبارك بدأت التصفية النهائية ببيع القطاع العام وكنس المكتسبات الاجتماعية للكادحين، وتم إضعاف الدور الإقليمي والدولي لمصر لدرجة الاضمحلال...الخ، وتم كل ذلك على قاعدة التبعية الكاملة للامبريالية الأمريكية، والتطبيع مع العدو الصهيوني.. وتم صناعة طبقة نهابة وتابعة وغير موالية للوطن استحوذت على الثروة والسلطة.
لقد طمست السلطة السياسية حقيقة أن مأثرة أكتوبر لم تكن فقط من أجل تحرير الأرض (الذي هو واجب مقدس) ولكنها أيضا كانت من أجل استكمال مشروع النهضة وتطويره على كل الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والوطنية والقومية والدولية، وتكريس العدل الاجتماعي وحرية الوطن والمواطن.
نحو أفق جديد لوطننا
إذا كانت قوى الردة والتبعية والفساد والاستغلال الوحشي والجهل قد قامت باختطاف ثمار مأثرة أكتوبر الخالدة. وقامت بتدمير غالبية عناصر قوتنا الشاملة (الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والسياسية والثقافية والعلمية والنفوذ الإقليمي والدولي) فإنها لم تتمكن من اختطاف أهم عناصر القوة الشاملة لأنها لاتزال أكثر منعة.
ومن المهم أن نرصد أنه قد بدأ انهيار مدو- لا سبيل لإيقافه- للقوى الامبريالية التي تستند إليها وتعيش في حمايتها وتعمل لصالحها قوى الردة المحلية التي سلبت الثروة والسلطة. وسوف يكون لهذا الانهيار (أياً كان مداه) تداعيات هائلة على مصر وعلى الإقليم برمته. وسوف تحدث تطورات عالمية هائلة بدأت تباشيرها في التوالي تباعاً. بينما بلادنا تعاني أزمة شاملة بلغت آماداً غير مسبوقة، ووصلت إلى حافة هاوية سحيقة تهدد بقاء الكيان الوطني.
ان واقعا عالميا جديدا قد بدأ في التشكل- وإن كان ذلك يحتاج إلى جهود هائلة– ولذلك ومن واقع الخبرة التاريخية لشعبنا، فإن استحقاقاً مصيرياً ينادي القوى الموكول إليها إنقاذ الوطن، في أكثر الظروف صعوبة في تاريخنا كله.