«ميتشل»... والمراوحة في المكان!
لم تكن النتائج التي تمخضت عنها الجولة المكوكية التاسعة للمبعوث الأمريكي «جورج ميتشل» لفلسطين المحتلة، مفاجئة لأحد. فالمقدمات التي مهدت للزيارة، حددت نتائجها سلفاً. فقد جاءت تصريحات «نتنياهو»- المتعلقة بطبيعة حدود «الدولة» الفلسطينية العتيدة- قبل وصول المبعوث الأمريكي بساعات، لتكشف عن الرؤية التوسعية/ الاستفزازية في آن واحد لحكومة العدو. فالاستقبال الصهيوني الحكومي لـ«ميتشل» جاء بالتأكيد على أهمية الوجود العسكري لجيش الاحتلال في منطقة الأغوار، على الحدود الشرقية لـ«الدولة» المفترضة، كما صرح به رئيس حكومة الكيان (إن التحديات الأمنية تفرض وجود جيش «إسرائيل» حول الدولة الفلسطينية المستقبلية... إن «إسرائيل» لن تتنازل عن نشر جيشها على طول الحدود مع الأردن، إلى جانب وجود الجيش على كامل الحدود للدولة الفلسطينية). جاءت هذه التصريحات لتكشف عن عمق التباينات بين سلطة رام الله المحتلة، وحكومة العدو، حول العودة العلنية لطاولة المفاوضات بين الطرفين. وهذا ماتأكد في حديث صائب عريقات للإذاعة الفلسطينية الرسمية (إن نتنياهو يضع شروطاً مسبقة لاستئناف المفاوضات من خلال الإعلان بأنه يريد الاحتفاظ بمنطقة الأغوار على الحدود الأردنية- البالغة مساحتها 28 بالمئة من مساحة الضفة الغربية- ويريد الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية- التي تحتل ما مساحته أكثر من 20 بالمئة من الضفة- ويريد الاحتفاظ بالقدس ويريد السيطرة على سماء فلسطين ومعابرها).
قبل وصول ميتشل للمنطقة، حرصت الإدارة الأمريكية على تسريب «مجموعة أفكار» تتعلق برؤيتها لاستئناف المفاوضات، من خلال مااصطلح على تسميته في الدوائر الأمريكية بـ«ورقة تفاهمات». وقد عبّرت تلك الأفكار عن تصورات الإدارة حول ضرورة «العودة لطاولة المفاوضات دون شروط مسبقة، أي في ظل الوقف المؤقت للاستيطان في الضفة» الذي أعلنه نتنياهو قبل أكثر من شهر. كما أشارت في بعض مضامينها إلى أن «الهدف من هذه المفاوضات يتمثل في المواءمة بين الهدف الفلسطيني، وهو إقامة الدولة فوق الأراضي التي احتلتها إسرائيل في الرابع من حزيران/ يونيو 1967 مع إمكان تبادل أراض، والهدف الإسرائيلي المتمثل في الاعتراف بيهودية الدولة». ولم يفت على صانعي هذه الأفكار، تثمينهم الايجابي لـ«مبادرة السلام العربية»، وتأكيدهم على أهمية التوصل إلى اتفاق على إقامة «دولة ذات حدود مؤقتة». أما وضع مدينة القدس المحتلة، فسيكون مطروحاً من «خلال مفاوضات ثنائية بين الفلسطينيين و«إسرائيل»، منفصلة عن المفاوضات في شأن الضفة وقطاع غزة مدتها عامان». ولم تنس الإدارة الأمريكية- مشكورة!- أن تشير إلى رفضها لبعض الأعمال والإجراءات «الإسرائيلية» في الجزء الشرقي من المدينة.
إن قراءة تفصيلية للورقة، ستكشف عن تراجع كبير في المواقف الأمريكية المعلنة سابقاً. فقد تلاشت الدولة ذات الحدود المعترف بها، لتحل مكانها دولة بحدود مؤقتة لسنوات، وكذلك التفاوض على تبادل أراض، وفتح باب التفاوض حول مدينة القدس على مدى عامين أو ثلاثة، خارج عملية البحث في وضع الضفة الغربية وقطاع غزة، مع التركيز على أهمية الاعتراف بيهودية الكيان، والتسريع بتطبيع العلاقات العربية مع حكومة العدو، كبادرة حسن نوايا جماعية! وقد تأكد بأن ميتشل أبلغ عباس بأنه «يتفهم مطلب وقف الاستيطان قبل بدء المفاوضات، لكنه يعتبر أن تحقيق مثل هذا الهدف ليس واقعياً في ظل حكومة نتنياهو». كما أن المبعوث الأمريكي قد تراجع عن وعود سابقة، كان يعتقد العديد من الأطراف أنها ستشكل «حزمة حوافز» تدفع بالفلسطينيين للجلوس لطاولة المفاوضات، كتحويل مناطق (ب) إلى إدارة السلطة الفلسطينية بصورة كاملة، ونقل أجزاء من المنطقة (ج) الخاضعة بالكامل للسيطرة الإدارية والأمنية «الإسرائيلية» إلى إدارة السلطة الفلسطينية، وإطلاق معتقلين فلسطينيين، وإزالة حواجز عسكرية، ورفع الحصار عن قطاع غزة. لكن ميتشل أبلغ محمود عباس أن مثل هذه الخطوات ستكون على طاولة البحث بعد إعادة إطلاق المفاوضات وليس قبلها.
مع مغادرة المبعوث الأمريكي فلسطين المحتلة، تعيد الإدارة الأمريكية إنتاج ذات السياسة السابقة «بوش/ رايس» التي تعاملت مع ملف الصراع العربي/ الفلسطيني- الصهيوني. ولهذا تكون الرهانات التي داعبت خيال البعض، على «حيادية أوباما» وعلى «نزاهة» و«إنسانية» الرئيس الجديد، قد تلاشت. وفي هذا المجال، فإن الرابح الوحيد من كل هذه الجولات المكوكية، هو الكيان الصهيوني، والإدارة الأمريكية، اللتان تكسبان بالوقت والوعود، فرض الوقائع التوسعية، الاستعمارية على أرض الواقع. وهذا ماشاهده العالم أثناء الزيارات التي قام بها نتنياهو للكتل الاستعمارية الكبرى (غوش عتصيون ومعاليه ادوميم) في الضفة الغربية المحتلة، وماسمعه من كلام استعماري/ إحلالي، تضمنته عبارات رئيس حكومة العدو، بعد ساعات قليلة على إقلاع طائرة ميتشل.
إن استمرار بعض الفلسطينيين في التشدق بالفم الملآن عن ضرورة التمسك بـ«المفاوضات»، وبالحرص على «عملية السلام»، سيكون دعماً وإسناداً للخطة الأمريكية/ الصهيونية، الهادفة خلق وقائع جديدة على الأرض، ستكون الأطراف جميعها، ملزمة على التعامل معها. إن ماكشفت عنه الجولات الأخيرة للمبعوث الأمريكي، وزيارات وزراء خارجية حكومات «الاعتدال» العربية لواشنطن، يشير إلى السياسة الأمريكية الحالية، هي الوجه الآخر لسياسة حكومة بوش، بعد أن سقطت عنها مساحيق التجميل التي رسمتها كلمات «أوباما» في حملته الانتخابية، ومن على منصة جامعة القاهرة.
لقد أعادت نتائج الجولة الجديدة لميتشل، التأكيد على أهمية صياغة رؤية وطنية جذرية، تتعامل مع الاحتلال الصهيوني للأرض العربية، والمشروع الامبريالي للهيمنة على الوطن العربي، كوجهين لعملة واحدة، مما يفرض تشكيل إطار وطني يحتضن كل القوى السياسية والمجتمعية، المتمسكة بالمقاومة، من أجل تحصين المجتمع، عبر نشر وتعميق ثقافة الانتماء للوطن والأمة، ومقاومة كل محاولات «تطويع» العقل والواقع، لقبول الكيان الصهيوني ومجرميه على أرضنا. إن التمسك بالمقاومة، والعمل الجماعي والمجتمعي على إدارة الصراع مع العدو، بعقلية وطنية تحررية، سيعيد إلى شعبنا وأمتنا، ثقته بقواه السياسية، وسيعمل على زيادة الخسائر في معسكر العدو.